Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

سيدر 1.. قراءة في السياسة والاقتصاد

مُخطئ من يظن لبرهة أنّ المؤتمرات الدولية التي تُعقد تحت مسميات “مساعدة لبنان” هي مؤتمرات “بريئة” خالية من أية غاية. لا شيء مجاني في دستور الاقتصاد الذي يحكم العلاقات بين الدول. التاريخ الحديث والبعيد يُعزّز هذه النظرية. فكم من المؤتمرات التي نظمت، هدفت الى الاستعمار الاقتصادي من خلال ضخ القروض عبر البنوك الدولية، وهو ما شكّل مادة دسمة للعديد من المطالعات التي تحدّثت عن استراتيجيات الدول في التحكم بالشعوب عبر سياسة الإستدانة. بعضُ ما سُرّب من مؤتمر “سيدر1” حتى الآن لناحية الحديث عن التزامات قدّمتها الحكومة للدول المُقرضة (أكثر من 11 مليار دولار قيمة القروض)، لم يُصنّفه البعض سوى في هذا الإطار. في سياق التبعية والريعية التي لطالما حكمت لبنان. وهنا، تتعدّد وجهات النظر وتتنوّع لناحية المؤتمر المذكور، إلا أن جلها لا يخرج عن سياق الآراء الداعمة أو المعارضة. ثمة وجهتي نظر في هذا الصدد. الأولى، تُصنّف المؤتمر في عداد “الفرصة” التي ستُحرّك عجلة الإقتصاد اللبناني. والثانية، لا ترى في هذا المؤتمر سوى “تهديد” سيُغرق لبنان في أتون التبعية شئنا أم أبينا. فماذا جنى لبنان اقتصادياً من هذا المؤتمر؟ وما الثمن الذي سيدفعه مقابل الاستدانة؟.

من الناحية الاقتصادية، لا يُنكر مستشار وزير الاقتصاد السابق البروفسور جاسم عجاقة أن لبنان بأمس الحاجة الى أموال لإحياء الاستثمارات. ما قُدّم برأيه في مؤتمر “باريس 4” يحل مشكلة الاستثمارات في لبنان، ولكنه لا يُنقذ المالية العامة للدولة والتي تحتاج لإصلاحات جذرية بسبب العجز الذي يلحق بها. بمعنى آخر، “سيدر 1″ يقدم انعاشاً للاقتصاد اللبناني وليس لميزانية الدولة. اسثمار الدول الكبيرة في لبنان قد يزيد من مداخيل دولتنا لكنه لا يحل مشكلة العجز المستشري في خزينتنا والذي يفرض علينا القيام بإصلاحات جدية ووجود إرداة حقيقية بمعالجة الهدر والفساد،  الشعار الذي أطلقه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله، والذي يتطلّب -وفق عجاقة-العمل الحثيث من كافة الأحزاب” .

يُعوّل عجاقة على هذا المؤتمر أكثر من المؤتمرات الباريسية السابقة (1و2و3) نظراً للجنة الرقابة التي ستتابع تنفيذ المشاريع خطوة بخطوة، وهو ما سيجعل الحصول على مبلغ الـ11 مليار دولار قروض أمرًا مستحيلًا، نظراً لشروط الدول المسبقة بعدم الإيفاء بتعهداتها إذا لم تقدم الخطط المتكاملة للمشاريع المطروحة قيد البحث. وهذا ما يفسر برأي المتحدث قول الاتحاد الاوروبي بأنه مستعد لإقراض لبنان مليون ونصف يورو شرط دراسة الجدوى الاقتصادية لكل مشروع.

قانصوه..نجاح المؤتمر محكوم بنا وزير الدولة لشؤون مجلس النواب علي قانصوه يُجري قراءة سريعة لمؤتمر “سيدر1” أو “باريس 4″، فيعرب عن مجموعة مخاوف وهواجس، يُشدد في صددها على ضرورة الانتباه جيداً الى حقيقة أن جميع المبالغ التي جمعها لبنان هي ديون وليست هبات، لذلك من الضروري صرفها في المكان المناسب، وذلك عبر استثمارها بمشاريع مفيدة تزيد النمو الاقتصادي. تماماً كما لا بد من حمايتها من الهدر والفساد والسرقات، وإلا فإن المبالغ ستزيدنا ديناً عاماً على غرار المؤتمرات السابقة. كما يلفت المتحدّث الى هاجس آخر يستوحيه من نصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المتكررة للحكومة اللبنانية بزيادة الضرائب لسداد الديون، وهذا ما يعتبره مرفوضاً، فأوضاع الطبقات الاجتماعية لا تحتمل أية زيادة. برأي قانصوه، فإنّ نجاح المؤتمر محكوم بنا نحن كطبقة سياسية بكيفية الاستفادة من قروضه في تحريك عجلة الاقتصاد وزيادة النمو وفرص العمل، مع عدم إغفال شعار المرحلة “محاربة الهدر والفساد”.

وفيما يكثر الحديث عن تبعية تحكُم قروض “سيدر1″. يوضح قانصوه أنّ الحكومة اللبنانية أكّدت في السابق أنّ أية مساعدة للبنان أو قروض مشروطة هي مرفوضة قطعاً. فإذا كان المجتمع الأوروبي تحت وطأة التحريض الأميركي، لا هم لديه الا كيفية إضعاف المقاومة، فهذا الأمر مرفوض جملةً وتفصيلاً مهما كان المقابل. لبنان برأيه لن يسير بخيارات استراتيجية خاطئة، مهما كان الثمن. وهنا يُشدّد قانصوه على أنّ تصويب البعض على المعادلة الذهبية ” الجيش والشعب والمقاومة” لن يؤتي أكله مطلقاً، فهذه المعادلة محمية وممنوع المساس بها أبد الآبدين.

لا يُحبّذ قانصوه الذهاب بعيداً في التشاؤم. من وجهة نظره، من المبكر الحديث عن كل الأجواء المحيطة بالحشد الدولي الذي شهدته فرنسا، لكنّ الوقائع الحاصلة حتى الآن تشير إلى جملة إيجابيات: أولها، يتمثل بعودة لبنان الى دائرة الاهتمام الدولي من بوابة الاقتصاد والأمن وغيره. ثانيها، برز في الفوائد المتدنية التي سيدفعها لبنان لقاء القروض، وهذا أمر من شأنه التخفيف من أعباء الدين، فبدل أن يُسدّد لبنان القروض المتوجبة عليه بفوائد تصل حد الـ9 والـ10 بالمئة، سيسدد ديونه بفوائد تتراوح بين 2 و3 و4

قنديل.. روائح التبعية والفساد تفوح من المؤتمر يختلف رئيس مركز الشرق الجديد للإعلام والدراسات الأستاذ غالب قنديل كثيراً مع وجهة نظر قانصوه. لا يرى مطلقاً أية إيجابيات تُغلّف هذا المؤتمر الذي لا يخرج في رأيه عن كونه امتدادًا للنهج الريعي الذي أدير به الوضع الاقتصادي في لبنان منذ عام 1992، والذي للأسف لم تخضع فيه السياسة العامة لأية مراجعة جدية، لمواصلة السيرة ذاتها بالاعتماد على باقة جديدة من القروض. يُشدد قنديل على أن اعتماد الحكومة على هذا الأسلوب دفع لبنان الى مزيد من الانزلاق في مسار كارثي ستتمخض نتائجه في مزيد من الضغط على الطبقات “الممسوحة” وتهميش القطاعات الانتاجية في اعتماد مطلق على سياسة “لحس المبرد” والاستنزاف الاقتصادي، كما يتوقّف عند توقيت عقد المؤتمر، والذي جاء بالتزامن مع الحملة الانتخابية ليسجّل مخالفة دستورية واضحة، تمثلت بمحاولة توظيف العلاقات الخارجية خدمة للحملة الانتخابية لرئيس الحكومة سعد الحريري وفريقه السياسي، وهو أمر مخالف للقانون. برأيه، كان من المفترض أن يجري المؤتمر قبيل انطلاق الحملات الانتخابية، أو ترك الملف لما بعد الانتخابات، لأن الالتزامات التي قدمت هي قيود على أية سياسات حكومية مسبقة.

يعود قنديل ليؤكّد أن المؤتمر عُقد بعقلية “الحول” الاستراتيجي الذي يضع لبنان في خانة الارتباط بالغرب والخليج والارتهان لهم، دونما إجراء الحسابات للواقع الدولي. وهنا يذكر حادثة تُدلل من وجهة نظره على ما يقول. منذ أيام التقى بسفير الصين في لبنان، فسأله عما إذا كانت الحكومة اللبنانية قد وجهت الى دولته لائحة بملف المشاريع التي ستحملها الى “سيدر 1″، فيجيب السفير بالنفي، ما يعتبره قنديل مفارقة خطيرة. فالصين هي الأكثر ملاءة على صعيد السيولة تستدين منها واشنطن، فلماذا يدير لبنان الظهر لبكين في البحث عن مصادر القروض؟، هل لأنها لا تضع شروطاً على من تقرضهم؟، هل لأنها خارج القبضة الأميركية؟.

يُكرّر قنديل بأن روائح التبعية والفساد تفوح من هذا المؤتمر، ما يضع كل صيغة جرى الاتفاق عليها، موضع شك ومثار تساؤلات حول ما يُضمر للبنان والمقاومة، وملف اللاجئين السوريين. يُشدد على أن كل الشبهات المثارة يجب أن يتم وضعها على الطاولة، خصوصاً أن الكثير من النقاط لا زالت مجهولة، إذ لم يتبين الالتزامات التي قدمها لبنان، كما لم تقدم الحكومة للرأي العام وقائع رقمية مفصلة عن الخطة التي قدمتها، والسياسات التي ستعتمد عليها لسداد الديون.

رابط العهد

Print Friendly, PDF & Email