Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

قواعد جديدة في العام 2019

مالية الدوّلة على حافة الإنهيار

أخذت مالية الدوّلة اللبنانية منحىً جديدًا مع تصاعد العجز ومعه الدين العام وبالتالي فإن الحقبة المُقبلة ستشهد تغييرًا جذريًا للإدارة المالية للدولة اللبنانية بعد أن عاشت لأكثر من عقدين في ظل ثقافة الإنفاق غير المُنظّم والعشوائي.

مع الخروج من الحرب الأهلية، كان الإقتصاد اللبناني قد فقد نصف حجمه مع تدمير شبه كامل للبنى التحتية في مركز الثقل الإقتصادي أي بيروت وجبل لبنان. وعلى هذا الأساس، قام الرئيس رفيق الحريري بإعتماد سياسة إقتصادية مبنية على الإستدانة حيث تلعب هذه الأخيرة دور الرافعة. هذا الأمر أوصل الدوّلة إلى الإستدانة بفوائد بلغت ما يوازي الـ 4

لم يستطع الرئيس الحريري من البقاء في السلطة وبالتالي لم يستطع إكمال خطّته حيث وفي العام 1999 كان عجز الموازنة قد بدأ يأخذ أبعادًا كبيرة نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي. وإذا إعتمدت حكومة الرئيس الحصّ موازنة تقشّفية لخفض هذا العجز، إلا أن طريقة التطبيق أدّت إلى خفض النمو الإقتصادي كنتاج طبيعي لحجم الإنفاق الحكومي الذي كان يبلغ مستويات عالية. عودة الرئيس الحريري إلى السلطة لم تسمحّ بإستمرار تطبيق خطتّه وذلك بسبب التخبّط السياسي والذي إنتهى بإستقالته.

عدوان تموّز 2006 وما واكبه من تدّمير قامت به الماكينة العسكرية الإسرائيلية دفع بالدوّلة إلى زيادة الإنفاق بإعتمادات من خارج الموازنة لتغطية تداعيات الحرب التي وصلت إلى 8 مليارات دولار أميركي. هذا الأمر أرسى في لبنان الذي منعت الخلافات السياسية من إقرار موازناته من العام 2006 إلى العام 2017، إلى إعتماد ثقافة مبنية على الصرف على أساس القاعدة الإثني العشرية مع الإنفاق بإعتمادات من خارج الموازنة. هذه الثقافة تخطّت كل تخطيط في ما يخصّ الإنفاق ودفعت بالدين العام إلى مستويات أكثر من كارثية مع وصول الدين العام إلى 18

وعلى الرغم من التصحيح الحسابي الذي أنزل هذه النسبة إلى 13

من جهة أخرى، أظهر تقرير وزارة المال عن أداء المالية العامّة للأشهر الست الأولى من العام 2018 إرتفاعًا كبيرًا في الإنفاق 2500 مليار ليرة زيادة عن الفترة نفسها في العام 2017 مع تراجع في الإيرادات بقيمة 500 مليار ليرة لبنانية. هذا الواقع الآليم يُظهر أن الدوّلة اللبنانية فقدت سيطرتها على المالية العامّة مع تسجيل الميزان الأولي عجزًا بقيمة 500 مليار ليرة لبنانية على الأشهر الست الأولى من العام 2018 مقارنة بـ 2500 مليار ليرة لبنانية على الفترة نفسها في العام 2017. وهذا الأمر يعني تراجعًا في أداء الماكينة الإقتصادية والذي قد يكون ناتجًا بقسم عن إرتفاع الفوائد ولكن أيضًا عن التخبّط السياسي الذي يعيشه لبنان منذ بداية العام 2018!

ومن أجل فهم التطوّرات المُستقبلية للمالية العامّة والإقتصاد اللبناني، قمنا بمحاكاة لتطوّر الدين العام بحسب المُعطيات الماكرو-إقتصادية بإعتماد ثلاثة سيناريوهات: الأول ستاتيكو أي إستمرار الوضع على ما هو عليه، الثاني تشاؤمي مع زيادة العجز وتراجع النمو الإقتصادي، والثالث تفاؤلي مع تسجيل نمو إقتصادي عالي مع لجم العجز؟

وتُشير النتائج إلى أن وضع المالية العامّة بحاجة إلى إجراءات أكثر من ضرورية لقلب منحنى الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي. هذا الأمر لا يُمكن أن يتمّ إلا مع نسبة نمو تفوق الـ

أمام هذا الواقع المُذري، لا يُمكن للدوّلة الإستمرار في إدارة المالية العامّة على نفس المنهجية وبالتالي فهي مُلزمة تغيير منهجها. ويدعم هذا الموقف تصريح وزير المال علي حسن خليل في جلسة مجلسة النواب بتاريخ 12 تشرين الثاني 2018 حيث قال أن إحتياط الدولة لا يحوي على أموال وبالتالي لا يُمكن تنفيذ أي مشروع من المشاريع المُقرّة في المجلس!

إذن قواعد جديدة ستحكم الفترة المُقبلة ونذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر:

أولًا – زيادة ملحوظة في الضرائب والتي تُعتبر واحدة من الإجراءات التي نصّت عليها مُقررات سيدر 1. هذا الأمر يعني أن الدوّلة ستلجأ إلى رفع الضريبة على الدخل والضريبة على القيمة المُضافة… لكن هذا الأمر هو أمر سيء بحكم أن الضرائب التي فرضتها الدوّلة في نهاية العام 2017 وتمّ تطبيقها في العام 2018 أدت إلى تراجع الإيرادات وهذا الأمر طبيعي بحكم أن هناك مرونة (elasticity) لطلب في حال إرتفاع الأسعار أضف إلى ذلك التضخّم الناتج عن سلسلة الرتب والرواتب وإرتفاع أسعار النفط وغيرها من العوامل التي تأكل من قدرة المواطن الشرائية.

إن خيار فرض الضرائب على النشاط الإقتصادي هو خيار خاطئ في هذه المرحلة الحرجة والأجدر بالدولة فرض ضرائب على الموارد غير المُستخدمة في الماكينة الإقتصادية مثل الأملاك البحرية والنهرية والشقق الشاغرة والحسابات المصرفية التي تفوق قيمتها نسبة مُعيّنة. هذا الأمر منصوص عليه في النظرية الإقتصادية ويهدف إلى إدخال هذه الموارد إلى النشاط الإقتصادي لإنعاشه.

ثانيًا – رفع الدعمّ عن كل المواد الغذائية وعن الكهرباء والمحروقات والتقديمات الصحّية عملًا بتوصيات صندوق النقد الدولي. وهذا الأمر سيكون له تداعيات إجتماعية كبيرة مما قد يدفع الدولة إلى العدول عن رفع الدعم بإستثناء الكهرباء التي أصبح من شبه الأكيد أنها لن تحظى في العامين المُقبلين بأي دعم من قبل الحكومة وهذا يعني رفع أسعار الكهرباء.

ثالثًا – هناك إتجاه من قبل الدوّلة وتحت ضغط من قبل صندوق النقد الدوّلي إلى خصخصة المرافق العامّة عبر بيعها للقطاع الخاص وهذا الأمر بحسب داعميه، قد يُدخل إلى الدوّلة مدخولًا يتجاوز الخمسة مليارات دولار أميركية.

رابعًا – لم يعد هناك من إمكانية أمام الدوّلة اللبنانية للتوظيف خصوصًا أن المصارف اللبنانية ومع حاجة الدّولة إلى التمويل، ستعمد إلى فرض شروط على الدولة لخفض حجم القطاع العام لصالح القطاع الخاص. وهذا الأمر قد يعني وقف التوظيف في القطاع العام لمدّة لا تقلّ عن خمسة سنوات.

سادسًا – إن الدوّلة ومن الأن وصاعدًا، ستُعطي الإنفاق العام إنتباهًا عاليًا نظرًا لما لها الإنفاق المُفرط من تداعيات سلبية على المالية العامّة. هذا الأمر سيمرّ إلزاميًا بمحاربة التهرّب الضريبي. وإذا كنّا ممن يعتقدون أن هذا الأمر هو الذي سيسمح بلجم العجز في الموازنة، إلا أن مدى قدّرة تطبيق الدوّلة لخطّة لمكافحة التهرّب الضريبي تبقى رهينة التوافق السياسي العام.

سابعًا – إعادة فرض رسوم جمركية على السلع والبضائع والخدمات التي يستوردها لبنان وتُنتج مثيل لها شركات لبنانية. وهذا الأمر مُبرّر بحجم الإستيراد الهائل (ما يوازي الـ 20 مليار دولار أميركي) حيث أن رسوم بقيمة 1

 

بالطبع وكما سبق الذكر هذه الإجراءات ليست حصرية وهناك إجراءات أخرى قد تلجأ لها الدوّلة اللبنانية في السنوات القادمة. كل هذا للقول أن وضع المالية العامّة حاليًا لم يعد يسمح بالإستمرار على نفس النهج المُتبع وبالتالي هناك إلزامية لتغيير قواعد اللعبة لإعادة الإنتظام للمالية العامّة. هذا الإنتظام لا يُمكن أن يحصل إلا في ظلّ شرط أساسي ألا وهو أن يكون الفائض في الميزان الأوّلي أعلى من خدمة الدين العام. في هذه الحالة فقط يُمكن القول أن هناك عودة إلى الإنتظام المالي حتى في ظل وجود عجز في الموازنة.

 

إننا نرى أن التعقيدات التي طالت وتطال تشكيل الحكومة هي عامل سلبي على المالية العامّة وتُكلّف حاليًا الدوّلة ما يوازي الـ 25 مليون دولار أميركي يوميًا. هذه النسبة قد ترتفع إلى أكثر من 75 مليون دولار أميركي في العام المُقبل و100 مليون دولار أميركي في العام 2020!

 

قراءة المقال في المجلّة: La voix diplomatique3

Print Friendly, PDF & Email