Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

هل يُمكن محاربة البطالة والتضخُّم في آن واحد؟

يتخبّط لبنان في وضع إقتصادي وأمني وسياسي، أقل ما يُقال، لا يُحسد عليه. الأوضاع الأمنية والسياسية، هيكلية الإقتصاد جنباً الى جنب مع السياسات الإقتصادية المُتبعة منذ عقود حتى اليوم، أوصلت البلد إلى مرحلة خطيرة جداً من حيث التضخّم، البطالة، النمو، العجز في الميزانية والدين العام. نظرياً، لا يمكن محاربة البطالة والتضخّم في آن. فكيف يُمكن التصرف حيال هذا الواقع؟  من البديهي القول أن على الحكومة أن تتصرّف إزاء الواقع الإقتصادي الحالي، وأن تعمد الى دفع العجلة الإقتصادية في هذه المرحلة الصعبة التي يمرّ بها لبنان. لكن دفع العجلة الإقتصادية سيتمّ على حساب عناصر إقتصادية أخرى.

لتوضيح هذه الفكرة، يجب العودة إلى نظرية العالم الإقتصادي ريكاردو كينس الذي أطلق في العام 1930 نظريته الشهيرة (Among others)، والتي تنصّ على أن المدخول الوطني ناتج عن الإستهلاك والإستثمار. أي لدفع العجلة الإقتصادية يجب زيادة الإستهلاك وزيادة الإستثمار.

وهنا تظهر المُشكلة، فالإستهلاك يتعلق بشكل ميكانيكي بالقدرة الشرائية للمستهلك، أي بمعنى آخر بمستوى التضخّم ومستوى الضرائب اللذين يجب أن يكونا منخفضين؛ أما الإستثمار فيتعلق بمعدل الفائدة ويزيد حين يكون معدل الفائدة منخفضا ويقل حين يزيد معدل الفائدة.

في لبنان، حيث التضخّم يفوق الـ 1

لنفترض أن الوضع الأمني والسياسي إستتب، وأن المسؤولين أنكبوا على العمل لإنقاذ لبنان من مأساته الإقتصادية. فما هي الخطوط العريضة لخطتهم؟ إذا كان المسؤولون يُفكرون في خطة إقتصادية (مالية ونقدية) تنصّ على تحفيز الإستهلاك عبر خفض التضخّم، وخفض الضرائب من جهة، وخفض معدل الفائدة من جهة أخرى، لتحفيز الإستثمار، فهذه الخطة فاشلة قبل البدء بها.

والسبب يعود الى :

أولاً الفائدة : إن خفض معدل الفائدة لتشجيع الإستثمار سيصطدم بمشكلة التضخّم الذي سيزيد بفعل خفض الفائدة، وسيُقلّل من القدرة الشرائية للمواطن، وبالتالي الإستهلاك. أضف الى ذلك أن مصرف لبنان وللحفاظ على السيولة العالية في المصارف، يعمد الى رفع الفائدة بشكل عال لا يواكب المعدلات العالمية في الإقتصادات الحرة.

ثانياً الضرائب: إن مستوى العجز في الميزانية، ونسبة الدين العام الى الناتج المحلي الإجمالي، لا يسمح للحكومة بخفض الضرائب وهي التي يركبها الهمّ بحثاً عن مصادر تمويل لسلسلة الرتب والرواتب.

من هنا يُمكن القول أن الحكومة ستواجه معضلة تقع فيها كثير من الدول الأوروبية التي تعيش أزمة ديون سيادية. ويُمكننا الجزم بأن هذه المعضلة ستضع المواطن اللبناني في وضع حرج جداً في حال لم تُحلّ. هذا الوضع سيتمثّل بتردّي كل مؤشرات الإقتصاد، بما فيها البطالة، التضخّم، النمو، العجز في الميزانية، الدين العام…وسنُصبح يوماً ما مُلزمين بتطبيق خطط تقشّف قسرية من قبل المجتمع الدولي ليقبل بمساعدتنا.

وبسبب الأحداث الأمنية والسياسية التي عصفت بلبنان منذ إنتهاء الحرب الأهلية، عمدت المصارف الى إعتماد سياسة الإنكماش في القروض للقطاع الخاص وفضلت تمويل عجز الدولة نظراً الى الفوائد العالية، ولما للدولة من ملاءة مقارنة بالقطاع الخاص. وغابت بقسم كبير عن تمويل الإستثمار، وإكتفت بتمويل الإستهلاك عبر القروض لشراء الشقق والسيارات، وقروض التعليم، وقروض شخصية… وأمِلَتْ في أن يؤول تمويل الإستهلاك إلى دفع العجلة الإقتصادية لكن التاريخ أخبرنا أن النتيجة المرجوة لم تتحقق.

وبالنظر عن قرب الى فترة النمو التي شهدها لبنان (2007 – 2010) والتي بلغ خلالها النمو معدلاً وسطياً بنسبة

أيضاً، يجب القول أن الإنفاق العام في لبنان يتخطّى الحدود المقبولة لدولة بهذا المُعدل من الدين العام. ووصل الإهمال في إعداد الموازنات الى تقديم مشاريع موازنات تحتوي على عجز، إضافة الى فرضيات ماكرو إقتصادية لا تمتّ الى الواقع بصلة، ناهيك عن عدم وجود قطع الحساب للسنين السابقة.

ومن المعروف أن كل دولة تواجه مشكلة دين عام، عليها البدء بخطط تقشف ولو بشكل بسيط، ولكن الوضع في لبنان معاكس لذلك للأسف، حيث نرى أن الإنفاق العام يزيد يوماً بعد يوم وكل عام بحجة جديدة (عدوان تموز، سلسلة الرتب والرواتب…).

ما هو الحل إذاً؟ من كل ما تقدّم، يتوجّب على المسؤولين أخذ مسؤولياتهم على محمل الجد، وإتباع خطوات عقلانية تسمح للبنان بالعودة الى وضع إقتصادي مقبول:

أولاً: يجب على الحكومة والفرقاء السياسيين تحييد الإقتصاد عن التجاذبات السياسية التي لا تُؤدّي إلا إلى زعزعة ثقة المستثمرين الذين يهربون نظراً إلى الوضع الأمني والسياسي المتردّي (للتأكّد من هذا يكفي النظر إلى عدد المستثمرين اللبنانيين الذين يستثمرون في أربيل منذ بدء الأزمة السورية).

ويجب عليهم أن يستوعبوا أن لا إقتصاد بدون إستثمار، وأن الحكومة غير قادرة على الإستثمار نظراً الى العجز في الميزانية ومستوى الدين العام. فليعمدوا إلى تسهيل الأمور للمستثمرين من القطاع الخاص.

ثانياً: يجب على المصارف أن تموّل الإستثمار ولو بفائدة عالية، فدورها الطبيعي هو تمويل الإقتصاد (إستهلاك وإستثمار).

ثالثاً: يجب على الحكومة إتباع العقلانية في مشاريع الموازنة بحيث تنطلق من فرضيات ماكرو إقتصادية واقعية، وتعمد إلى لجم الإنفاق الجاري وزيادة الإنفاق الإستثماري. ومن المُعيب تقديم مشاريع موازنة فيها عجز ناتج عن الإنفاق الجاري، ولايكون هناك قطع حساب للسنة السابقة.

رابعاً: يجب على الحكومة أن تعمد إلى إغواء المغتربين اللبنانيين عبر خفض الضرائب على كل مغترب يستثمر في لبنان. والذهاب إلى حد الإعفاء من الضرائب إذا كان الإستثمار يطال عدداً من القطاعات الحيوية. فالمغترب اللبناني هو من أنتج نمو الاعوام 2007-2010.

في الختام نُذكِّر بأن لبنان يتميّز بكثير من الصفات الإيجابية والسلبية، لكن الصفة الأهم التي يتميّز بها هي قلب كل النظريات الإقتصادية رأساً على عقب. وعلى هذا الصعيد، أود أن أُردّد جواب صديق لي يعمل في القطاع المصرفي عند سؤالي له عن سبب عدم إنهيار الوضع المالي في لبنان على الرغم من كل المؤشرات السلبية، فأجاب بالقول: “هناك مودع غير عقلاني يُودع بدون سؤال، ومصارف غير عقلانية تموّل عجز الدولة بدون سؤال، ومالية عامة غير عقلانية تُنفق بدون سؤال… ويّلٌ لنا، إذا ما أصبح أحدهم عقلانيا”

رابط الجمهورية 

Print Friendly, PDF & Email