Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

نظرة فلسفية للوضع الإقتصادي في لبنان

لماذا وصل الوضع الإقتصادي الى ما هو عليه اليوم؟ سؤال لا ينفكّ اللبناني يطرحه على نفسه ويُحاول أن يُجيب عليه بنظريات مختلفة منها ما هو أمني، ومنها ما هو سياسي وإقتصادي… 

Print Friendly, PDF & Email

الجمهورية | بروفسور جاسم عجاقة

يمر لبنان حالياً في مرحلة أمنية حرجة أدّت الى ضرب مقومات الإقتصاد اللبناني. هذه المقومات كانت في الأساس ضعيفة مع تفاقم أزمة الدين العام ومالية الدولة، ومع الركود الإقتصادي الذي يعيشه العالم. وكان من واجب الحكومة القيام بعدد من الخطوات بهدف تخفيف الأزمة.

لكن التركيبة السياسية اللبنانية تقف عقبة رئيسية أمام هذه الخطوات، ونجد أن المسؤولين السياسيين في لبنان يصرفون وقتهم بالجدالات السياسية العقيمة التي تلعب دوراً أساسياً في الفلتان الأمني في لبنان. ويأتي الإنقسام المذهبي ليؤجّج الوضع عبر المواجهات الأمنية التي تعصف بالمكونات الطائفية للبنان وخصوصاً ظاهرة الخطف التي كنا إعتقدنا أنها ولّت مع إنتهاء الحرب الأهلية.

النظام الإجتماعي

إن مشكلة النظام الإجتماعي هي مشكلة تاريخية ومشكلة فلسفية في آن واحد. ومزج هاتين المشكلتين أدّى إلى هامش ضيق في تفسير هذا النظام الإجتماعي، بحسب النظرية الدينية، أساس السلطة، والنظرية التعاقدية.

وتوزيع البشر إلى مجموعات هو واقع يشهد عليه التاريخ من ناحية الثبات والشمولية (مشكلة تاريخية)، أما سبب وآلية هذا التوزيع فهي مشكلة فلسفية. ومشكلة التوزيع البشري (موجودة أيضاً لدى الحيوانات) ليست خاصة ببلد معين بل تشمل العالم كله، لكن في غياب قوانين تحكم وتُنظم الأوضاع، تأخذ هذه المشكلة منحاً أخر، وتُشرّع قانون الغاب.

التوزيع في لبنان هو توزيع طائفي، مذهبي، مناطقي، عقائدي…إلخ، تختلف أولاوياته بحسب الأسباب التي تُظهر حدته ولكن مصلحة الأنا هي أولوية في كل الظروف (Rational Self Interest Theory). ومن المؤسف القول، أن هذا التوزيع تغلغل في المجتمع على كل الأصعدة : الجغرافية، التربوية، الإقتصادية، السياسية… وأصبحت أفعال الشخص ترجمة لمصالحه الشخصية كما ولمصالح المجموعة التي ينتمي لها.

وإذا كان إنتماء شخص إلى مجموعة هو إنتماء صادق نابع من عاطفة وإدراك (نظرية بلاتون)، إلا أن هذا الإنتماء يُصبح أقل صدقاً عندما يكتشف هذا الشخص الكم من المصالح التي قد تأتيه جراء إنتمائه لهذه المجموعة.

من الجوانب السيئة للتوزيع البشري، هناك :

أولاً الفساد

الذي يُعرف بإساءة إستعمال السلطة، المعطاة بوكالة، لأغراض الإثراء الشخصي. وأجمل تعريف أُعطي للفساد، وصف روبرت كليتغارت الذي أعطى المُعادلة التالية: الفساد = إحتكار + سلطة – شفافية.

وتكمن أسباب الفساد بغياب الإدارة الرشيدة (إطار تشريعي غير ملائم، نظام قضائي غير فعال، عدم الشفافية…)، غياب سياسات محاربة الفساد، الضعف المؤسساتي لموسسات الدولة و/أو المؤسسات الخاصة، الأجور المنخفضة لبعض المراكز الحساسة، الثقافة المحلية.

يظهر الفساد كلما تلاشت الحدود بين منطق المصلحة العامة ومنطق المصلحة الخاصة. وعدم قدرة الأحزاب السياسية على تمويل نفقاتها من رسوم المنتسبين اليها أدّى إلى تشريع الفساد (المناقصات العامة). وإذا قبل مواطن بالفساد، فالسبب يعود الى تسهيل معاملته. وكذلك الحال بالنسبة للشركات التي، ولتسيير أعمالها، لا تتردد في “إطعام” أصحاب القرار.

الفساد يطال أصحاب النفوذ على كل المستويات، حتى الموظف البسيط في دائرة رسمية أصبح رهينة الفساد (بداعي الحاجة في أغلب الأحيان). ويحق للمرء أن يسأل عن كيفية حصول سجين على أجهزة خليوية ومن أمّن له الإتصال مع الخارج (Yves Mény).

وقد تم تصنيف لبنان على لائحة الفساد في المرتبة 127 من أصل 178 دولة (Transparency International). وكنتائج مباشرة للفساد على الإقتصاد اللبناني، يُمكن ذكر حرمان خزينة الدولة من الأموال، إضعاف شركات لحساب شركات أخرى، تأخير المعاملات الإقتصادية، الإحتكار، غياب الإصلاحات، غياب الخطط الإقتصادية…

ثانياً تضارب المصالح

إن تضارُب المصالح يظهر عند شخص أو منظمة في حال تواجد أكثر من مصلحة لهذا الشخص أو المُنظمة. وتواجد عدة مصالح تُؤثر على رأيه إتجاه أحدى المصالح على حساب المصالح الأخرى.

ولا يُمكن الحديث عن تضارب المصالح إلا ضمن منصب رسمي حيث تتضارب مصالح الشخص مع المصالح العامة في إطار المهام التي أوكلت إليه. وتضارب المصالح متفشٍ في لبنان، ويطال كل القطاعات بما فيها القطاع الإقتصادي والقضائي والإجتماعي…

من أجل تخطّي مشكلة تضارُب المصالح في فرنسا مثلاً، قام المسؤولون بوضع قانون يمنع على كل من يتعاطى الشأن العام بتعاطي الشأن الخاص مما يُعطي للشخص حرية في تقييم الوضع بكل موضوعية.

وفي القطاع الخاص، تمّ وضع ما يُسمى بـ “سور الصين” وهذا التعبير يُستخدم في الشركات المالية لفصل مصلحة الزبائن عن مصلحة الشركة. وفي البلدان المُتطورة إقتصادياً، نرى قليلاً من الشركات الكبيرة والمتوسطة الحجم مرؤوسة من قبل أصحابها (Corporate Governance).

في لبنان، لم يكن دور الهيئات الإقتصادية في لبنان حيال الوضع الإقتصادي، على المُستوى المطلوب. والسبب يعود إلى تشابك المصالح حيث، نجد أن معظم الساسة اللبنانيين يمتلكون مصالحهم الخاصة ولا يترددون في إستعمال صلاحيات السلطة لدعم أعمالهم الخاصة والعكس بالعكس.

وأبعد من ذلك، أدّى الأداء السياسي اللبناني خلال السنين الماضية الى خلق دويلات طائفية داخل المجتمع اللبناني نتج عنه إنقسام حاد على جميع الأصعدة. ودخلت المحسوبيات السياسية في صميم القطاع الخاص حيث نجد شركات محسوبة بالكامل على فرقاء سياسيين تخدم مصالحهم.

هذه المحسوبيات أدت الى تعلق أداء الشركة التجاري (Performance) بشكل مباشر بالوضع السياسي. من هذا المنظار، نجد أن الطبقة السياسية فشلت وتتحمل مسؤولية نتائج الأزمة الإقتصادية التي يتخبّط فيها لبنان حيث يكتفي المسؤولون اللبنانيون بتصريحات إعلامية لا تُصرف في الإقتصاد. وبالتالي، فقدَ أصحاب القرار الإقتصادي المصداقية.

ثالثًا عدم كفاءة أصحاب القرار

في العام 1970، قام العالمان لورانس بيتر وريمون هول بوضع مبدأ سُمّي بمبدأ “بيتر” وينص على أن أنه تتم ترقية الأفراد في الهرم الوظيفي طالما أنهم يعملون بكفاءة عالية، إلا أنه عاجلاً أم آجلاً ستتم ترقيتهم إلى مركز وظيفي لا يستطيعون فيه تحقيق الكفاءة نفسها.

ويستمر الأمر على هذا النحو إلى أن “يأتي الوقت الذي سيكون فيه كل منصب وظيفي مشغولاً بموظف غير كفوء”. والنتيجة، بحسب بيتر، أن “الأشخاص غير كفوئين هم الذين يسيطرون على المناصب المهمة برغم أنهم يفتقرون إلى الخبرة فيها”.

وقد يتساءل المرء إذا كان من الضروري أن يكون الوزير ملماً بتقنيات وزارته؟ والجواب هو لا، لكن من الضروي أن يعتمد على فريق عمل يمتلك الكفاءات المناسبة ولا يضمّ أشخاصا غير كفوئين تمّ توظيفهم لمحسوبياتهم السياسية فقط (والأمثلة كثيرة في لبنان) .

ومن أهم الأضرار على الإقتصاد اللبناني والناتجة عن عدم كفاءة الأشخاص، تفويت الفرص والتي، بحسب النظرية الإقتصادية، هي خسارة على الإقتصاد. من هنا أهمية آلية إنتقاء الأشخاص الكفوئين في عملهم وأن تكون هذه الآلية شفافة وفعالة.

في الختام، يُمكن القول أن النظام السياسي في لبنان يلعب دوراً سلبياً في تدارك الوضع الإقتصادي من قبل المعنيين في الدولة الى حد منعهم من التعامل مع الوضع بمسؤولية وطنية تغلب فيها مصلحة الوطن على المصالح الشخصية. لذا من الضروي العمل تشريعياً على نصّ قوانين تطال محاربة الفساد، تضارُب المصالح وكفاءة الأشخاص المولجين بتولي مناصب عامة.

Print Friendly, PDF & Email
Source الجمهورية