jassemajaka@gmail.com
الإستراتيجية الدفاعية الوطنية
في حين أن ملامح الشرق الأوسط الجديد بدأت تبرز، يعيش لبنان، الحلقة الأضعف في هذه المنطقة، حال عدم استقرار سياسي وأمني بسبب إنقسام الطبقة السياسية والتبعيات الدولية والإقليمية. ومع إزدياد الحديث عن أهمية حصر السلاح بالجيش اللبناني، يبرز إلى الواجهة موضوع الإستراتيجية الدفاعية التي يختصرها بعض السياسيين بتجريد «حزب الله» من سلاحه. ودراستنا تُظهر أهمية أخذ عناصر أخرى بالإعتبار.
الجمهورية / بروفسور جاسم عجاقة
مفهوم “الأمن” هو مفهوم غير موضوعي، ويختلف تعريفه بين الذين يملكون الأمن من الذين لا يملكونه. وإذا كانت عدم موضوعية مفهوم الأمن وغموضه ممزوجة تُشوّه مفهوم الأمن، إلّا أنها لا تستطيع أن تحجب الهدف الرئيس للأمن، ألا وهو “منع التغييرات غير المرغوب بها أو القسرية”.
ومفهوم الأمن هو مفهوم واسع جداً، ويشمل فكرة استخدام القوة لمنع التغييرات غير المرغوب بها أو القسرية، كما والبحث عن اتفاق مشترك لتوليد هذه التغييرات بطريقة سلمية. والأمن من خلال إستخدام القوة لا يُلغي الأمن من خلال الحوار المتبادل من قبل الأطراف. وفي الوقت نفسه، فإن استخدام الحوار للتفاوض بهدف الوصول إلى أهداف مشتركة لا يعني أن الدول ستتخلّى عن سلاحها للدفاع عن أمنها.
وعمدت بعض الدول العظمى إلى خلق مفهوم “أمن وطني” يتخطى الحدود الجغرافية للدولة ويسمح لها باستخدام القوة في مناطق بعيدة عنها جغرافياً للحفاظ على بعض المصالح التي تُعد إستراتيجية بالنسبة لها. ويُعتبر الأمن في منطقة الشرق الأوسط، أحد المواضيع الرئيسة في العلاقات الدولية في تاريخنا المُعاصر، لما تحويه هذه المنطقة من مصالح مهمة للدول العظمى.
الغموض الإستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط
تعيش منطقة الشرق الأوسط مرحلة من الغموض الإستراتيجي حيث نشهد تكوّن قطبين أساسيّين بقيادة الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وروسيا من جهة أخرى.
وإذا كان الدعم واضح من قبل الدول العظمى لأفرقاء النزاع، إلّا أن مواقف هذه الدول في بعض الأحيان من عدد من القضايا يُظهر غموضاً في المواقف والأهداف لهذه الدول. هذا الغموض بدأ يُؤثر بمصير المنطقة خصوصاً مع الأحداث التي تشهدها المنطقة من ثورات في البلدان العربية ومجابهات بين الفرقاء التقليديّين.
وقد لعبت الأزمة السورية دوراً أساسياً في صقل القطبين في المنطقة. فمن جهة نرى الثوار مع دعم غربي (لجزء من هذه المعارضة) مُتمثل بالولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، والتي بمحاربة النظام في سوريا تهدف الى لجم نفوذ ما يُسمّى بـ”دول الممانعة” أي سوريا وإيران، وفي الوقت نفسه القضاء على مصادر “حزب الله” العسكرية والمالية.
وهذا الدعم له هدفان أساسيان: الأول تأمين الإمدادات بالنفط الى أميركا والغاز الى أوروبا، والثاني تحقيق أمن إسرائيل عبر كسر القوى الإقليمية التي لها القدرة والنية بضرب إسرائيل أي سوريا، إيران و”حزب الله”. ومن جهة أخرى هناك النظام السوري المدعوم بشكل واضح ولا محدود من قبل روسيا، وهذا ما ساعد النظام على الصمود كل هذه الفترة.
مفتاح الأمن… الإقتصاد
بدأت الثورات العربية في تونس، حيث فجّرت المشاكل الإقتصادية والإجتماعية ثورة الياسمين. وانتشرت روح ثورة التمرد في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لتضرب مصر واليمن والأردن والجزائر وسوريا. الأسباب الظاهرة للتمرد هي كلفة المعيشة والبطالة والفساد والحرية السياسية وحرية الصحافة. وفي لبنان، نتشارك مع هذه البلدان، كلفة المعيشة، والبطالة، والفساد، والدين العام… وبكل بساطة، يُمكن إختصار هذا الوضع بفقدان الأمن الإقتصادي.
لبنان رديف للأزمة السورية
لكن الوضع في لبنان أخذ منحاً خطيراً مع إنغماس بعض القوى المحلية في الأزمة السورية. وهذا الإنغماس أدى إلى شق المجتمع اللبناني عمودياً، وخلق جبهتين سياسيتين تتمثلان بقوى “8 و14 آذار”.
وأصبح الوضع الأمني في لبنان رديفاً للوضع الأمني في سوريا، فكل حدث في سوريا يُترجم بتطوّر أمني في لبنان. وذروة الوضع التعيس الذي وصلنا إليه، هو عدم قدرة الأفرقاء السياسيين على التوافق على تسمية الأعداء، وبالتالي أصبح الوضع السياسي مرهون بالوضع الأمني (المرهون بدوره بالوضع السياسي) كما بالمعطيات الإقليمية (Game Theory).
«باب خلاص»
على الرغم من التطمينات الغربية بعدم وجود نية لتأجيج الأوضاع في لبنان، إلّا أن كل العوامل المطلوبة (Ingredients) لإنفجار كامل للوضع الأمني موجودة. من هنا تبرز أهمية الدعوة التي وجهها رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان لطاولة حوار يكون موضوعها الإستراتيجية الدفاعية. فهذه الأخيرة هي الحل الوحيد (غير العسكري) لتخطّي الوضع الحالي.
مكونات الإستراتيجية الدفاعية
للأسف، نسمع السياسيين عندما يتكلمون عن الإستراتيجية الدفاعية الوطنية، يقصدون الشق العسكري فقط. لكن بالنظر إلى بعض الإستراتيجيات العالمية، نرى أن الشق العسكري هو جزء من هذه الإستراتيجية كما تُظهره الأمثلة التالية: في الولايات المُتحدة الأميركية، تأتي المصالح الإقتصادية في الدرجة الأولى، ومن ثم الإستراتيجية العسكرية لحماية هذه المصالح.
أما في ألمانيا “النازية” (لا نتحدث عن ألمانيا الحالية) فقد احتلت الإستراتيجية العنصرية المرتبة الأولى، وأتت الماكينة العسكرية لتخدم هذا الهدف. وفي إيران، لا يُخفى على أحد نيتها بأن تُصبح قوى عسكرية عظمى عبر الإكتفاء العسكري الذاتي، والذي يشمل جميع أنواع الأسلحة.
أما في إسرائيل فقد تميزت مرحلة ما قبل إكتشاف حقول الغاز في البحر بإستراتيجية دفاعية عسكرية في الدرجة الأولى (الدولة للسلاح)، ولكن مع ولوج عصر الغاز، تغيرت هذه الإستراتيجية وأصبحت المصالح النفطية في الدرجة الأولى، والماكينة العسكرية تخدم هذه المصالح.
اعتماد المرونة
هذه الإستراتيجية يجب أن تعتمد أسلوب المرونة الوقتية، أي أن تُعاد دراستها كل عشر سنوات نظراً للتغيّر في المعطيات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، كما ومعطيات الأمن الوطني والدولي. وتعتمد هذه الإستراتيجية على الأسس التالية:
أولاً الحفاظ على إستقلال لبنان وسيادته: عبر وضع الموارد اللازمة كمّاً ونوعية تحت تصرف الجيش اللبناني للحفاظ على السيادة الوطنية التي هي أساس الأمن الوطني. وفي غياب هذه الموارد، فإن مفهوم السيادة “يُفرّغ من مضمونه، ويُصبح مفهوماً إعلانياً” (المصدر : الكتاب الأبيض – الدفاع والأمن الوطني الفرنسي 2013).
ثانياً حماية المواطن اللبناني: إن حماية المواطن اللبناني تقضي بأن تضع الدولة كل الموارد اللازمة في يد القوات المسلحة الرسمية من أمن داخلي وجيش وأمن عام لمكافحة العمليات الإرهابية التي تهدد حياة المواطن اللبناني. وهذه الحماية هي واجب على الدولة ولا فضل لها بتأمينها.
ثالثاً حماية مصالح المجتمع اللبناني: وخصوصاً المصالح الإقتصادية، (تأمين طرق إستيراد المواد الإستراتيجية) وتحفيز الإقتصاد (الأمن الإقتصادي) ووضع سياسة إجتماعية لخير المجتمع اللبناني.
ولتحقيق نجاح هذه الأسس، يتوجب:
– تحديد الجبهات الإستراتيجية التي تشكل عنصر تهديد للمصالح اللبنانية وتتضمن تأمين الحدود، الدفاع عن الثروة النفطية، الأخذ بمخاوف مكونات المجتمع اللبناني… كما والعناصر التي وردت في إعلان بعبدا.
– تحديد سياسة دفاع شامل ومتكامل تُحدد أُطر الأمن الوطني الذي يحتوي على سياسة الدفاع الخارجي (ضد العدو)، وسياسة الأمن الداخلي (ضبط الأمن) وسياسة الدفاع المدني.
– المحافظة على وعي إستراتيجي يمر بالوقاية التي تعتمد بشكل حصري على الإستخبارات (من هنا الدور المهم للأجهزة الإستخبارية)، الردع، الحماية، والتدخل بواسطة قوات خاصة.
– خلق قوة صاروخية لردع العدو عبر تزويد الجيش اللبناني بترسانة صاروخية حديثة مهمتها الوحيدة الردع عند الإعتداء على الأراضي اللبنانية (مجال قصير) ومتنوعة، تسمح بردع الطائرات والبوارج واعتراض الصواريخ.
– إنشاء إحتياط بشري كما وخدمة مدنية إلزامية لغرس الهوية الوطنية اللبنانية في عقول وقلوب الشباب اللبناني.
– إشراك المجتمع المدني بالأبحاث الإستراتيجية والتي أمّنت التفوق للدول العظمى، فلا يخفى على أحد أن القنبلة النووية إخترعها مدني، والتكنولوجيا الرقمية، المُستخدمة في المجال العسكري، أساسها الجامعات…
– إنشاء هيئة وطنية مدنية – عسكرية لإدارة الأزمات في فترات الحروب والعمليات الإرهابية وغيرها، مهمتها خلق التعاون العسكري – المدني بهدف حماية المواطن اللبناني وتخفيف الأضرار عليه.
– وضع سياسة أمن داخلي تتصدرها حماية المواطن اللبناني وتمر عبر نزع السلاح، مكافحة الإرهاب، إنشاء وسائل دفاع مدنية، مكافحة الهجومات الإلكترونية وحماية طرق التزود بالمواد الإستراتيجية.
– البحث عن تعاون إستراتيجي عسكري مع بعض الدول التي لا تفرض شروطاً على لبنان، مما يعني إستقلالاً إستراتيجياً في القرارات الوطنية ويسمح للسلطات اللبنانية بتقييم معاهدات التعاون العسكري الموجودة وإعادة النظر بها.
– تنمية قدرات الجيش على التخطيط وقيادة العمليات العسكرية عبر تدعيم مراكز الأبحاث وكليات التدريب وتزويده بالسلاح والعتاد الذي يسمح له بإنجاز مهمته على أكمل وجه.
كيف يُمكن إنجاح هذه الإستراتيجية؟
هذه الإستراتيجية هي البديل الوحيد عن الحل العسكري، الذي سيفرض رابحاً وخاسراً، مما يعني زيادة الشرخ في المجتمع اللبناني. لذا من أولى العوامل التي ستُنجح هذه الإستراتيجية، إقتناع الأفرقاء اللبنانيين بأنها البديل الوحيد للفوضى والحرب، وعدم رفع سقف المطالب. ثاني عامل مهم في إنجاحها، تفعيل الديبلوماسية اللبنانية لتسويق الفكرة والشرح للمجتمع الدولي الأهداف الدفاعية البحتة لهذه الإستراتيجية.
كما وأن للإنتشار اللبناني دوراً كبيراً في تسويق هذه الفكرة. ثم يأتي دور الأشخاص المؤهلين لوضع استراتيجية إنمائية طموحة وواقعية على الصعيد الوطني، وتشمل الشق الإقتصادي، الإجتماعي، التربوي، التكنولوجي….
ماذا عن السلاح الداخلي ؟
أمام السلطات الرسمية إحتمالان: سحب السلاح الداخلي بالقوة، وهذا الخيار سيكون كارثياً على المجتمع اللبناني. أو إعتماد أساليب ديبلوماسية ذكية عبر لجنة وطنية مؤلفة من أشخاص حياديين لهم مصداقية، لحضّ الأفرقاء اللبنانيين على تسليم سلاحهم، أو إيجاد صيغة لدمجه مع سلاح الجيش اللبناني.
وقد يظن البعض أن هذا الإقتراح لن يكون مجدياً، إلّا أن هذا الإحتمال هو الوحيد الممكن حالياً، خصوصاً إذا ما تم الأخذ بالإعتبار هواجس حاملي السلاح، وشرح أضرار الحلول العسكرية التي قد تُفرض من الخارج.