Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

سياسةُ تحديد سعر الفائدة في أميركا

يعيش مجلس الشيوخ الأميركي حالاً من الغموض حول التوقيت المحتمل لرفع سعر الفائدة في الولايات المتحدة. وهذا الغموض تركته حاكمة البنك الإحتياطي الفيدرالي جانيت يلين في المناظرة الفصلية أمام المجلس. فما هي أسباب هذه الحيرة حول التوقيت؟ وكيف يتمّ أخذ قرار رفع الفائدة؟

Print Friendly, PDF & Email

الجمهورية / بروفسور جاسم عجاقة

من المعروف أنّ مهمة المصارف المركزية هي وضع وتنفيذ الخطط النقدية، لكنّ قلّة يعرفون أنّ أولويات أهداف المصرف المركزي تختلف عند وضع السياسات النقدية. فمثلاً، يهدف الإحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى تعزيز الأهداف للوصول إلى العمالة القصوى، إستقرار الأسعار، وأسعار فائدة معتدلة على المدى الطويل.

أما البنك المركزي الأوروبي فيهدف إلى الحفاظ على استقرار الأسعار، دعم السياسات العامة الاقتصادية في الإتحاد الأوروبي بهدف المساهمة في تحقيق مستوى عالٍ من العمالة (وذلك من دون المساس بإستقرار الأسعار)، نموّ مستدام وغير تضخمي، ودرجة عالية من القدرة التنافسية كما وتقارب الأداء الاقتصادي لدول الإتحاد.

وفي إنكلترا، يعمد المصرف المركزي إلى الحفاظ على استقرار الأسعار، ودعم السياسة الاقتصادية للحكومة بما في ذلك أهداف النموّ والعمالة. وفي اليابان، يهدف البنك المركزي إلى الحفاظ على استقرار الأسعار، وضمان استقرار النظام المالي، وبالتالي إرساء أسس تنمية اقتصادية سليمة.

فلسفة السياسة النقدية…

مفهوم هدف البنوك المركزية، يأتي من طبيعة السياسة النقدية حيث إنّ لها ثلاثة جوانب مختلفة تتمثل بـ: الأدوات، الأهداف الوسيطة والهدف النهائي. وهذا التمييز بين الجوانب الثلاثة يفرض نفسه من ناحية أنّ هناك وقتاً لكي تُعطي السياسة النقدية أثارها.

وبما أنّ أدوات السياسة النقدية تعمل بشكل غير مباشر وغير فوري لتحقيق الهدف النهائي، لذا من المهم تحديد الأهداف الوسيطة التي يجب أن تستوفي شرطين: أولاً إرتباطها المباشر بالهدف النهائي، ثانياً تخضع هذه الأهداف إلى تأثير فوري ومرئي من أدوات السياسة النقدية.

من هنا يظهر إلى العلن ثلاثة أهداف وسيطة تسمح بقيادة رائدة لسياسة نقدية لا يُمكن قياس أثارها مباشرة بسبب عدم فورية هذه الأثار:

أولاً الكتلة النقدية: وهذا الهدف هو عبارة عن مراقبة دقيقة لخلق العملة مباشرةً عبر طبع العملات أو غير مباشرة عبر القروض. وهذه المراقبة هي مراقبة كمية لأنه وبحسب الإعتقاد السائد، هناك علاقة وطيدة بين خلق العملة وشروط التمويل. كما أنّ نظرية النقد تنصّ على أنّ السيطرة على خلق العملة، يعني السيطرة على التضخم؛

ثانياً سعر صرف العملة: وهنا يتوجب على المصرف المركزي مراقبة تطوّر سعر صرف العملة مقابل عملة أو سلة من العملات الأجنبية وذلك بهدف توفير مرساة إسمية لتوقعات التضخم من اللاعبين الإقتصاديين، وهذا بهدف تحقيق استقرار في الأسعار. وهذه الإستراتيجية المُتبعة من البلدان التي تُعاني تضخماً عالياً، لها سيئات من أهمها أنّ السياسة النقدية تُصبح مُقيّدة بالوضع الإقتصادي للبلد المرجع (أي البلد الذي تُقارَن عملته مع العملة الوطنية). وهذا يخلق نوعاً من التضارب بين أهداف السياسة النقدية (ثبات الأسعار، النموّ الإقتصادي…) والهدف الخارجي أيْ سعر صرف العملة.

ثالثاً التضخم: وهذا الهدف يعني التركيز على كل العوامل الإقتصادية والمالية التي تؤثر في ثبات الأسعار بما فيها الكتلة النقدية وسعر صرف العملة. والجدير بالذكر أنّ هذا الهدف الوسيط يفرض تقنياتٍ ومهاراتٍ عالية من البنك المركزي حتى إنه أصبح أحد المؤشرات على تطوّر المصارف المركزية.

إستقلالية المصارف المركزية…

تُعتبر إستقلالية المصارف المركزية من أهم القوانين التي تمّ إصدارها في تاريخ المصارف المركزية. ومن أول البلدان التي أصدرت هذه القوانين الولايات المُتحدة الأميركية (1951) والمانيا (1957). أما في أوروبا واليابان فقد تمّ فرضها في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.

وهدف الإستقلالية هو بكل بساطة جعل السياسة النقدية سياسة مبنية على الكم من دون أيّ تدخلات سياسية. وهذا الأمر نجح بشكل كبير بين ثمانينات القرن الماضي وحتى بدء الأزمة المالية العالمية، حيث نجحت دول عدة في تحقيق مستويات عمالة كما كان يتوقعها المحللون الإقتصاديون (Taylor Rule).

لكن مع بدء الأزمة المالية العالمية (2008)، لم يعد بالإمكان الحديث عن إستقلاليةٍ للمصارف المركزية كما عبّر رئيس الوزراء الياباني «شينزو أبي»: انّ نموذج المصرف المركزي المستقل الذي يتبع سياسة ثبات أسعار، تُوفي مع الأزمة. وهذا التصريح خطير لأنه يكشف خضوعَ حكام المصارف المركزية للسياسات الحكومية، ويُنذر بإتباع المصارف المركزية سياسة إضعاف العملات ما يعني تسييس سعر صرفها كما تفعل الصين (صحيفة الجمهورية 12 تموز 2014).

صعوبة التوقعات…

من المعروف أنّ العقل البشري هو الوحيد الذي عجزت عن نمذجته علوم الرياضيات. وكل حدث يدخل فيه قرار بشري يؤدي إلى تعقيدات تمنع النماذج العلمية من توقع المستقبل، أضف إلى ذلك الوقت الذي يلزم لأيّ سياسة نقدية لتُعطي مفعولها. كلّ هذا يجعل وضع سقف للتضخم شبه مستحيل. لكنّ المشكلة التي تعترض الإقتصاد الأميركي حالياً هي غياب التضخم الذي يُرافق عادة النموّ.

وغياب هذا الأخير يعني عدم وجود نموّ مستدام. ومن المعروف عن البنك الإحتياطي الفيدرالي الأميركي، أنه وفي حال كان هناك ركود إقتصادي، يعمد إلى تخفيض سعر الفائدة إلى مستويات تدفع بالإستثمار صعوداً ما ينتج عنها خفض معدل البطالة. والعادة التي كانت سارية قبل أزمة العام 2008، هي أنّ البنك الإحتياطي الفيدرالي الأميركي ينتظر ثلاثة فصول متتالية من إنخفاض للبطالة قبل أن يعمد في الفصل الرابع إلى رفع سعر الفائدة.

لكنّ أرقام البطالة ليست على الموعد، كما أنّ التصريحات الحذرة لجانيت يلين، حاكمة البنك الإحتياطي الفيدرالي، تفيد أنه وعلى الرغم من إستمرار الاقتصاد الأميركي بالتحسن والانتعاش إلّا أنّ عملية التحسن هذه ليست كاملة حتى الآن، كذلك فإنّ الإصلاحات المالية الضرورية التي لم تُنفّذ كلها، أدّت إلى نشر غموض في الأسواق (يُتوقع إرتفاع أسعار الذهب!). والجدير بالذكر أنّ أرقام الإقتصاد الأميركي تُشير إلى أنّ التضخم هو ما دون المستوى المطلوب كما أنّ البطالة ما زالت مرتفعة.

وفي لبنان…

أما في لبنان، وبموجب قانون النقد والتسليف الصادر في 1 آب 1963، يتمتع المصرف بصلاحيات كاملة لضمان استقرار سعر صرف الليرة. لكن للأسف لا يوجد سقفٌ للتضخم ما يعني أنّه يُمكن أن يلامس الرقمين قبل أن يتحرّك مصرف لبنان للجمه.

والمبدأ الإقتصادي المعروف بـ «مثلث عدم التوافق» ينصّ على أنّ إقتصاداً معيناً في إطار دولي، لا يمكنه تحقيق الأهداف الثلاثة التالية في الوقت نفسه: نظامُ سعر صرف ثابت، سياسة نقدية مستقلة وحرية تنقل رؤوس الأموال؛ إلّا أنّ مصرف لبنان يعتمد سياسةََ ثباتٍ نقدي وحريةَ تنقّلٍ لرؤوس الأموال، أما سياسته النقدية فمحدودة وذلك بحكم القيود النقدية والإقتصادية.

Print Friendly, PDF & Email
Source الجمهورية