مما لا شكّ فيه أنّ ما سنورده في هذا المقال يُظهر مدى عدم الرغبة السياسية القيام بالإصلاحات المطلوبة. وبالتالي فإنّ القرار السياسي هو المسؤول الأول والأخير عن الخروج من الأزمة الحالية التي عصفت وتعصف بلبنان.

أشارت وكالة “بلومبرغ” أنّه من المتوقّع أن تُسجّل العملة الباكستانية – أي الروبية الباكستانية، أفضل أداء هذا الشهر وذلك على الصعيد العالمي. فقد تحسّنت قيمة الروبية بنسبة

المعروف أنّ التهريب والتحاويل غير القانونية بين الهند والباكستان مُزدهرة وهناك نظام غير رسمي (Hawala and hundi) شائع في الباكستان وفي جنوب آسيا، وهذا يُشكّل ضررًا كبيرًا على الروبية. لذا قامت الحكومة الباكستانية بملاحقة الأشخاص المتورّطين في تجارة الدولار غير القانونية، وداهمت وكالة التحقيقات الفيدرالية الباكستانية مكاتب في جميع أنحاء البلاد وزرعت رجالها في العديد من الأماكن لمراقبة الصرّافين. وبالتالي خفّت المضاربة على العملة الباكستانية وشهدت تحسّنًا في سعر صرفها الرسمي.

المُقارنة بين الواقع الباكستاني والواقع اللبناني يُشير إلى أنّ هناك تشابهاً كبيراً

وعلى صعيدٍ موازٍ، قام المصرف المركزي الباكستاني بفرض رفع رأسمال شركات الصرافة الصغيرة (إلى 1.6 مليون دولار أميركي) وطلب من المصارف فتح شركات صرافة خاصّة بها، وذلك بهدف زيادة المعروض والتنافسية وإضفاء مزيد من الشفافية على نشاط الصرافة وتسهيل المراقبة والمحاسبة. للتذكير أنّ هذا الإجراء الأخير هو مطلب من مطالب صندوق النقد الدولي للحكومة الباكستانية ويعتبره إجراءً إصلاحياً بامتياز.

عمليًا، المُقارنة بين الواقع الباكستاني والواقع اللبناني يُشير إلى أنّ هناك تشابهاً كبيراً. فما الذي يمنع الحكومة اللبنانية من اتّخاذ نفس الإجراءات؟ والأهمّ ما الذي منعها من أخذ هذه الإجراءات منذ العام 2020؟ الجواب بكلّ بساطة هو عدم الرغبة السياسية. في الواقع استقرار سعر صرف الدولار مُقابل الليرة اللبنانية اليوم يعود بشكل شبه حصري إلى قرار بعض القوى السياسية الضغط على الصرافين ومنعهم من شراء الدولارات في السوق مُقابل الليرة اللبنانية، وهو ما إاسحب على بعض الشركات الرسمية التي ترفض أيضًا شراء الدولارات بشكل واضح وصريح. إذًا تنفيذ هذا القرار بهدف تحرير سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي هو أمرٌ مُمكنٌ ويتطلّب قرارًا في مجلس الوزراء على أن يُستكمل بإجراءات مُماثلة لملاحقة مهرّبي السّلع والبضائع بالإتجاهين (من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل).

أيضًا، هناك الاقتصاد النقدي والذي من المفروض على الحكومة مُعالجته. ففي السوق هناك مليارات الدولارات التي تُستخدم في العمليات التجارية من دون أن تستحصل الحكومة على الضرائب عليها. وبالتّالي، فإنّ عملية تسوية أوضاع لهذه الأموال، بعد إعادة هيكلة القطاع المصرفي بالتأكيد، ستُعيد الإنتعاش للإقتصاد والمالية العامة وتُعفي لبنان من الذهاب إلى اللائحة الرمادية التي ستُعقّد بدون أدنى شكّ عملية الإستيراد من الخارج والتحاويل المالية من وإلى لبنان.

لكن الأهمّ في كلّ هذه اللعبة هي الفائدة التي ستعود على المودعين، إذ أنّ إعادة إحياء القطاع المصرفي، بعد إعادة هيكلته، ستسمح للمصارف بتلبية حاجات المواطنين من ودائعهم بالعملة الصعبة بالتوازي مع قانون كابيتال كونترول يمنع تهريب الدولارات إلى الخارج. وهذا إن حصل، سيؤدّي حكمًا إلى تراجع الطلب على كلّ الودائع والإكتفاء بتلبية الحاجات التي ستكون مؤمّنة من خلال دولارات السوق.

كلّ هذه الخطوات لا تحتاج لأكثر من أسابيع للقيام بها وتنفيذها على الأرض، لكن وكما سبق وذكرنا، هناك عدم رغبة سياسية بهذا الأمر، والتوجّه الأكثر للطبقة السياسية هو نحو شطب الودائع من باب شطب الدين العام، وذلك للعفو عن كلّ الإرتكابات الماضية بحقّ المال العام وبحقّ أموال المودعين.

على صعيد آخر، ردّت لجنة المال والموازنة مشروع قانون موازنة العام 2023، رافضةً البتّ فيه ومُعلّلة الأسباب التي هي أسباب مشروعة. لكنّ المُشكلة التي ستظهر هي الأصعب. فإنفاق عام 2023 يفوق الإيرادات بأكثر من 40 تريليون ليرة لبنانية، يرفض المصرف المركزي تمويل الفارق. وبالتالي ومع رفض الخارج إقراض الحكومة اللبنانية، من أين ستموّل الحكومة هذا العجز؟

السيناريو الأكثر إحتمالًا هو أن تعمد الحكومة إلى إرسال مشروع قانون لفتح اعتماد من خارج الموازنة، وهو ما سيسمح بتغطية الفارق من خلال الفرض على مصرف لبنان (قانونًا) تمويل الحكومة. وبالتاّلي إن حصل هذا الأمر، فإنّ المصرف المركزي سيعمد إلى ضخّ الليرات في حساب الدولة في المصرف المركزي وسنشهد إرتفاعًا لسعر صرف الدولار الأميركي في السوق الموازية.

السيناريو الأقلّ إحتمالًا، لكنّه مطروح هو أن تعمد الحكومة إلى بيع أصول من أصولها لتغطية العجز، وهو إن حصل يعني حرق هذه الأصول نظرًا إلى أنها ستذهب بأسعارٍ بخسة، ونظرًا إلى أنّ بيع الأصول عادة ما يكون بهدف الإستثمار.

من هذا المُنطلق، نرى أنّه وبغياب إجراءات فعّالة على الأرض للجم التهريب والفساد ومحاربة الإقتصاد النقدي، من المتوقّع أن يشهد لبنان تردٍ إضافي في ماليّته العامّة، وكلّ هذا بسبب عدم الرغبة السياسية في أخذ القرارات المناسبة واستخدام هذه القوى الملفّ المالي لغايات سياسية.

لقد أصبح من الضروري والضروري جدًا أن يعي الشعب اللبناني أنّ المسؤولين السياسيين هم الذين يتحمّلون مسوؤلية التأخير الحاصل في الخروج من الأزمة الحالية. وبالتّالي يجب ترجمة هذا الوعي في الإنتخابات القادمة حيث يتوجّب مُساءلة ممُثلي الشعب عن إنجازاتهم في ما يخصّ الأزمة الإقتصادية التي تعصف بلبنان.