Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

المصارف اللبنانية العمود الفقري للاقتصاد اللبناني

الديار | بروفسور جاسم عجاقة

يُعتبر القطاع المصرفي اللبناني العامود الفقري للاقتصاد اللبناني حيث يؤدي دورا أساسيا في تمويل الاقتصاد إضافة إلى مُهمة تمويل عجز موازنة الدوّلة والذي أصبح أكثر من عبء.

تنصّ النظرية الاقتصادية على أن الاقتصادات تتموّل بطريقتين: الأولى عبر المصارف والثانية عبر الأسواق المالية. الاقتصادات التي تتموّل عبر المصارف هي اقتصادات لا تمتلك أسواقاً مالية مُتطوّرة (على مثال لبنان) في حين أن الاقتصادات التي تتموّل من الأسواق المالية يوجد فيها أسواق مالية مُتطوّرة وحديثة تسمح بتمويل الدوّلة والشركات.

بورصة بيروت التي تُعتبر من الأقدمّ في الشرق الأوسط، لم تستطع على مدى قرن التطور نتيجة خضوعها للبيروقراطية الإدارية في القطاع العام. وبالتالي وبعد كل هذا الوقت بقي عدد الشركات المُتداولة فيها لا يتخطّى الـ 11 شركة. إذًا يُمكن الإستنتاج أنه من شبه المُستحيل تمويل الاقتصاد أو الدوّلة من خلال بورصة بيروت مما يعني أن هذه المهمّة تقع على عاتق المصارف اللبنانية.

القطاع المصرفي اللبناني، ومنذ تبوؤ رياض سلامة سدّة الحاكمية ورغبته المُطلقة في جعل القطاع المصرفي اللبناني مماثلاً لنظرائه العالميين، تطوّر بشكل سريع سمح له في أقلّ من عشر سنوات بالظهور في لائحة أول ألف مصرف في العالم!

تنظيم القطاع المصرفي اللبناني تمّ من خلال العمل على عدّة محاور:

أولا على الصعيد التنظيمي: فرض مصرف لبنان على القطاع المصرفي هيكلية تنظيمية تُحاكي التطوّر الاقتصادي والتكنولوجي مع رقابة ذاتية دائمة وإدارة رشيدة تتمتّع بأدوات فعّالة. وتمّ على هذا الأساس خلق العديد من الوحدات داخل المصارف مثل وحدة المخاطر، وحدة التدقيق الداخلي، وحدة الامتثال، لجان الرقابة، وحدة التكنولوجيا والمعلوماتية…

ثانيًا على الصعيد البشري: فرض مصرف لبنان على المصارف أن يتبع موظّفوها (مُقسّمون بحسب المهام الوظيفية) دورات تدريبية مع إمتحان في أخر كل دوّرة. وهذه الامتحانات هي شرط أساسي للموظّف للعمل في المصرف مما سمح باستقطاب نخبة من الموظّفين ذوي الشهادات والكفاءات العالية.

ثالثًا على الصعيد القانوني: أخذت المصارف على عاتقها من خلال الوحدة القانونية ووحدة الامتثال في المصرف التدقيق في التزام المصارف بالقوانين الوطنية، وتعاميم مصرف لبنان ولكن أيضًا بالقوانين الدوّلية. وهذا الأمر جعل المصارف محطّ ثقة عالمية مع اعتراف المصارف المراسلة بذلك مما فتح أبواب المصارف العالمية أمام المصارف اللبنانية.

رابعًا على الصعيد العملاني: فرض مصرف لبنان على المصارف أن تُنشئ دليلاً لكل عملية يقوم بها الموظّف في المصرف مع آلية رقابة على هذه العملية. والنتيجة الألاف من العمليات في النهار مع مستوى مخاطر مُتدن Operational Risk)). أيضا فرض المركزي على المصارف أخذ كل الاحتياطات اللازمة لتفادي تداعيات تعطيل عملها من خلال وضع سيناريوهات إحترازية (Business Continuity Plan) والذي يسمح للمصارف بالاستمرار في عملها تحت أي ظرف.

خامسًا على صعيد المخاطر: تحوّلت المصارف اللبنانية إلى خليات عمل يتم فيها حساب المخاطر على العميل وعلى المصرف في آن واحد. والسبب هو الرغبة في تفادي التداعيات السلبية للأحداث التي قد تطرأ والتي هي خارجة عن إرادة المصرف. مثلا يُمكن ذكر المخاطر المالية (Market Risk, Credit Risk Operational Risk)، المخاطر القانونية (الإمتثال، التشريع…)، المخاطر الإستراتيجية (Ad-hoc Risk) …

سادسًا على صعيد المودعين: فرض مصرف لبنان على المصارف رزمة من الإجراءات التي تهدف إلى حماية أموال المودعين حتى أنها أصبحت (أي الإجراءات) تنافس الإجراءات المُتبعة في المصارف العالمية إن من ناحية الشفافية أو من ناحية الأمان على هذه الأموال. وبالتالي نتج من ذلك ضمانة 10

سابعا على صعيد رأسمال المصارف: دفع الحاكم رياض سلامة المصارف اللبنانية إلى زيادة رأسمالها بشكل مُستمر وهو الذي طلب منها تخصيص 2

ثامنًا على الصعيد الحسابي: تنشر المصارف اللبنانية خصوصا تلك المتداولة أسهمها في البورصة حساباتها المالية في الصحف وعلى مواقعها الإلكترونية. هذه الحسابات تخضع لأربعة أنواع من التدقيق: من قبل وحدة التدقيق الداخلي، من قبل مفوض الرقابة (External Auditor ) من قبل لجنة الرقابة على المصارف، ومن قبل وزارة المال. وبالتالي أصبحت هذه الحسابات شفافة وموثوق بها.

ثامنًا على صعيد التمويل: إلتزام المصارف اللبنانية بالمعايير الدوّلية كما والقوانين المحلية والعالمية فتح لها أبواب التمويل في كل العالم وجعلها موضع ثقة. وبالتالي أصبح لدى هذه المصارف قدرة جذب كبيرة للودائع كما والقدرة على الاستدانة من المصارف المراسلة. هذا الأمر يسمح بزيادة قدرتها التمويلية داخليا وما تمويلها للعجز المزمن لخزينة الدوّلة إلا شاهد على فعّالية الإجراءات التي اتخذتها.

تاسعًا على صعيد الرقابة: إضافة إلى الرقابة الداخلية، تخضع المصارف اللبنانية إلى رقابة صارمة من قبل مصرف لبنان وأجهزته (لجنة الرقابة على المصارف، هيئة الأسواق المالية، هيئة التحقيق الخاصة). وتقوم لجنة الرقابة على المصارف بمراقبة كل العمليات (بالتفاصيل) التي يقوم بها المصرف والتي تتعلّق بدقائق قانون النقد والتسليف أي بمعنى أخر كل العمليات التي لها علاقة بالعمليات المصرفية التقليدية. في حين تخضع العمليات التي تقوم بها المصارف في الأسواق المالية إن لحسابها الخاص أو لحساب الزبائن، إلى تدقيق شديد من قبل هيئة الأسواق المالية. أما الإلتزام بقوانين مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، فتقوم هيئة التحقيق الخاصة (التي لا تخضع للسرية المصرفية) بمراقبة العمليات التي يقوم بها المصرف إن لحسابه الخاص أو لحساب عملائه. إضافة إلى كل ذلك، هناك إلزامية على المصارف اللبنانية بإرسال تقارير يومية، أسبوعية، شهرية، فصلية، نصف سنوية وسنوية إلى مصرف لبنان وأجهزته.

بالطبع كل هذه الإجراءات أدّت إلى نتائج أكثر من مرضية حيث ترد أسماء مصارف لبنانية في لائحة تصنيف أول ألف مصرف في العالم، كما أنها استطاعت حتى الساعة تمويل القطاع الخاص اللبناني ما يقارب 57 مليار دولار أميركي (أكثر من الناتج المحلّي الإجمالي)، إضافة إلى تمويل القطاع العام بأكثر من 33 مليار دولار أميركي. كما ساهمت المصارف التجارية اللبنانية في تدعيم احتياط مصرف لبنان من العملات الصعبة مما ساعد في تدعيم الثبات النقدي وذلك من خلال الهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان.

إلى جانب كل هذه الإنجازات، يبرز إلى العلن مُشكلة تمويل الدوّلة التي من المفروض أن تتموّل من الضرائب على النشاط الاقتصادي. وقد دفعت المصارف اللبنانية ثمن تمويلها عجز خزينة الدوّلة من خلال خفض التصنيف الإئتماني لثلاثة مصارف منها. الجدير ذكره أن تمويل الدوّلة يذهب لتمويل الإنفاق الجاري وليس الإنفاق الإستثماري مما يعني أن الأموال التي تقرضها المصارف للدوّلة اللبنانية هي خسارة للقطاع الخاص بحكم أن مهمّة المصارف هي تمويل الاقتصاد وليس الدوّلة.

من كل ما تقدّم نرى أن القطاع المصرفي اللبناني صامد ويُناهز المصارف العالمية من ناحية طريقة العمل، التنظيم، الرقابة والالتزام بالقوانين. وقد استطاع حتى الساعة القيام بمهمّته إضافة إلى مهمّة تمويل عجز الدوّلة، فحبّذا لو تعمد الحكومة إلى الحفاظ على هذا القطاع من خلال خفض عجزها لكي تذهب الأموال إلى القطاع الخاص.

Print Friendly, PDF & Email
Source الديار الجريدة