Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

رفع أسعار الفائدة في أميركا يهزّ إقتصادات الدول

تنصبّ إهتمامات الأسواق المالية على إجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة (FOMC) في 13 من الشهر الجاري لمعرفة قرارها في ما يخص رفع الفائدة في الولايات المُتحدة الأميركية. ومن المُتوقّع أن تُرفع الفائدة إلى

تلعب السياسات النقدية في الولايات المُتحدة الأميركية دورًا أساسيًا في تحديد السياسات النقدية في إقتصادات الدول الناشئة، الدول التي تربط عملتها بالدولار الأميركي، والدُول المُنتجة للنفط. وهنا يُطرح السؤال عن القدرات التي تتمتلكها المصارف المركزية في هذه الدول للتفاعل بشكل أفضل مع تأثيرات السياسة النقدية الأميركية؟

إرتفاع سعر صرف العملة الناتج عن رفع الفوائد، يُقلّل من إجمالي الطلب ويخلق مخاطر إستقرار مالي إذ أنه يزيد من مخاطر الأزمات المالية لاحقًا (غورينشاس وأوبستفيلد 2011). ومع نمو أسواق السندات المحلّية والإستثمارات الخارجية في هذه الأسواق، تُصبح عائدات هذه السندات مُرتبطة بشكل كبير بأسعار الفائدة في الأسواق المالية وخصوصًا في الولايات المُتحدة الأميركية مما يُسبب هجرة رؤوس الأموال لهذه السندات وبالتالي تقلّ فعّالية السياسة النقدية المحليّة بحكم أن رفع أسعار الفائدة لا يؤدّي بالضرورة إلى رفع أسعار الفائدة على الفترات الطويلة (Long Maturities). هذا الواقع تمّت مُعالجته في الماضي عبر إعتماد المصارف المركزية في الدول الناشئة، المُصدرة للبترول والتي تربط عملتها بالدولار الأميركي بمجموعة أوسع من الأدوات النقدية أو غير النقدية. فعلى سبيل المثال تمّ إستخدام أدوات إحترازية (Macroprudential) أو تدفقات مالية أو زيادة الإحتياطات الأجنبية.

أداء الانتاج والتضخم من أكثر المؤشرات التي تُستخدم في تقييم السياسة النقدية هي أداء الإنتاج (output) والتضخم. وتضع المصارف المركزية كهدف لها مُستوى مُنخفض من التضخم كما ومُستويات منخفضة للتغيرات (volatility) في التضخم والإنتاج. وتُظهر البيانات التاريخية (Datastream) أن هناك تعلّق واضح بين الإنتاج في الدول الأوروبية والشرق أوسطية والناشئة بالإنتاج في الولايات المُتحدة الأميركية خصوصًا بعد العام 2000. وهذا التعلّق سببه الرئيسي يبقى الأسواق المالية المُنفتحة على بعضها البعض والتي تؤثّر بشكل واضح على تنقّل رؤوس الأموال بين الدول. أمّا في ما يخص التغيرات في الإنتاج فتُظهر هذه البيانات أن السياسات النقدية أصبحت فعّالة مع مرور الوقت نظرًا إلى الثبات بالأسعار وبالتالي الثبات في الإنتاج. هذه التغيّرات أخذت منحًا سيئًا منذ العام 2011 مع هبوطها إلى مستويات تُقارب الصفر.

التضخمّ من جهته أنخفض أيضًا مع الوقت مع تعلّق قوي بين الإقتصاد الأميركي والإقتصادات العالمية الأخرى، إلا أن تغيّرات التضخمّ وخاصة في الدول الناشئة إزدادت في الفترة الأخيرة مُنذرة بأزمات مالية وإقتصادية. هذه الإرتفاع تزامن مع هروب رؤوس الأموال من هذه الدول بإتجاه الولايات المُتحدة الأميركية بعد بدء موجة رفع سعر الفائدة مؤخّرًا.

هذا الواقع تزامن مع تراجع القروض للقطاع الخاص نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي مما يعني أن حركة الإستثمار والإستهلاك في هذه الدول في تراجع وبالتالي سينعكس ذلك حكمًا تراجعًا في النمو الإقتصادي.

سعر صرف العملة وأسعار الفائدة على السندات الفترة التي تلت الأزمة المالية شهدت تحسنًا بمعظم العملات في الدول الناشئة، وذلك نتيجة تدفق رؤوس الأموال من الولايات المُتحدّة الأميركية بإتجاه هذه الدول نتيجة الأزمة المالية. لكن الدول الأوروبية شهدت إنخفاض في أسعار عملاتها نتيجة أزمة الديون السيادية. وبالتالي وعملًا بمبدأ “مثلّت عدم التوافق” الذي ينص على إستحالة التوفيق بين تدفقات رأس المال الحر مع كل من أسعار الصرف الثابتة وسياسة نقدية مستقلة، أخذت السياسات النقدية في هذه الدول منحيين: الأول إعتماد سعر صرف حرّ ومرن للعملة، والثاني إدارة قوية لتدفقات رؤوس الأموال مع بعض القيود على خروجها (صندوق النقد الدولي 2015). يقول ميهالجك (2011) أن البنوك المركزية تستجيب لتحركات أسعار الصرف بحسب مستوى المخاوف من الوضع الإقتصادي ولكن أيضًا بسبب المخاوف بشأن الإستقرار المالي في المدى القصير، أو إعتبارات تخصيص الموارد متوسطة الأجل. وإنخفاض سعر العمّلة يزيد من التضخّم عبر إرتفاع الأسعار حيث يُمكّن أن يؤدّي إلى تقلّب حاد في أسعار الأصول وميزانيات القطاع الخاص! كما أن إرتفاع تقلبات الإنتاج يؤّدي إلى رفع تقلّبات سعر صرف العملة خاصّة إذا ما كانت الأسواق المالية المحلّية غير مُتطوّرة ولا تحوي أدوات مالية للتحوّط. وهذا الأمر يطرح السؤال عن القدّرة الفعلية للمصارف المركزية في هذه الدول من إتخاذ إجراءات مناسبة لتثبيت سعر صرف العمّلة.

أسعار الفائدة على سندات الخزينة أسعار الفائدة على سندات الخزينة هي عنصر أساسي في إقتصادات الدول من منطلق أن الحكومات تُعتبر اللاعب الأكثر إستدانة في الأسواق المالية. فكلما كبر حجم هذه الإستدانة، يتأثر القطاع الخاص سلبًا بحكم أنه يُحرم من هذه الأموال. وإذا ما أخذنا بعين الإعتبار عائدات الإستثمارات في القطاع الخاص (القطاع العقاري مثلًا)، فإن المصارف التجارية غير مُستعدّة أن تمولها في حال كانت عائدت الإستثمار قريبة أو أقلّ من عائدات سندات الخزينة. وهنا يظهر عجز المصارف المركزية على ردٍ مؤاتٍ لهذا الأمر بحكم أن رفع الفائدة على الأمد القصير لا يؤدّي حكمًا إلى رفع الفوائد على الأمد البعيد من خلال آليات مُعقّدة نذكر منها نظرية “العوائد المُفضّلة” ونظرية التحكيم (Arbitrage).

الأدوات النقدية من أهم ما يجب فعله عند مقاربة المصارف المركزية في الدول الناشئة لمعالجة مُشكلة سعر صرف العملة على الآمد البعيد هي الأخذ بعين الإعتبار العوامل الآنفة الذكر (مثلًا إمكانية تحديد سياسية الأسعار على أساس ردّ فعل على قيمة الفوائد على سندات الخزينة، إضافة إلى السياسة النقدية الأميركية). وهنا تظهر قاعدة تايلور (المُعدّلة) كإحدى الأدوات الأساسية لتفعيل النمو الإقتصادي مع المُحافظة على قيمة سعر صرف العملة. الجدير ذكره أن المكاسب من إعتماد هذه القاعدة قد تكون أقلّ من المكاسب من التدفقات المالية في حال كانت أسعار الفائدة على سندات الخزينة عالية (حالة لبنان). من هذا المُنطلق هناك إستنتاج كبير يجب على المصارف المركزية إعتماده ألا وهو : “في حال كان هناك غموض في الظروف الإقتصادية للبلد، يتوجّب على المصارف المركزية إعتماد قاعدة أكثر تشدًدا من قاعدة تايلور”.

الأدوات غير النقدية المعروف أنه في ظلّ وجود غموض إقتصادي وعوامل جيوسياسية مُعقّدة، إعتماد الأدوات النقدية لن يكون كافٍ لضمان الثبات النقدي خصوصًا في ظل العولمة. من هذا المُنطلق تتجه المصارف إلى إعتماد أدوات غير نقدية مثل الإجراءات الإحترازية، سياسة مُتكاملة لإدارة الدين العام الذي يُعتبر من أكثر العوامل تأثيرًا على العملة، وإجراءات لإدارة التدفقات المالية والتي تؤثرّ بشكل مباشر على ميزان المدفوعات وبالتالي على العملة (الأداة الأكثر إستخدامًا من قبل مصرف لبنان).

في الختام لا يسعنا القول إلا أن العوامل النقدية العالمية وخصوصًا الأميركية تُشكّل التحدي الأكبر للدول ذات الإقتصادات المُتفتوحة (مثل لبنان). وما سبق من شرح عن تأثير السياسة النقدية الأميركية على عملات وإقتصادات هذه الدول، ما هو إلا دليل واضح على صعوبة مُهمّة مصرف لبنان وحاكمه وذلك في غياب إجراءات إقتصادية فعّالة من قبل الحكومة اللبنانية.

Print Friendly, PDF & Email