Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

حكومة إنقاذ أم إدارة للأزمات؟

سيمون سمعان

بغض النظر عمّا إذا كانت الحكومة الجديدة قريبة التشكيل أم لا، وما إذا كانت موسّعة أم مصغّرة، حكومة تكنوقراط أم أقطاب، وأيا يكن شكلها ومضمونها وحتى بيانها الوزاري، فحكومة العهد الأولى ستكون أمام استحقاقات وملفات وتحديات عديدة ورثتها عن الحكومة السابقة، وعليها أن تواجهها، ليس لأنها في صلب مسؤولياتها فحسب، بل لأن الملفات المنتقلة إليها هي من الحساسية والأهمية بمكان بحيث لا يمكنها أن تستمر وتحكم من دون إيجاد الحلول المقبولة لها.والحلول المقبولة هي في الحد الأدنى حلحلة ما ضاق الناس ذرعا من استمراره من عهد إلى عهد، وما يكرر المسؤولون يوميا أنه في صلب اهتماماتهم وأنهم سيكونون مجندين لحله، وهو ما خيضت الإنتخابات تحت عناوينه: من مكافحة الفساد إلى النفط والكهرباء، إلى النازحين السوريين، وصولا إلى متابعة مقررات «سيدر»، والقضايا العديدة التي دفعت الناس إلى الشارع في أكثر من ملف. فكيف ستتصرف الحكومة العتيدة حيالها؟

صحيح أن مرحلة التشكيل انطلقت والرئيس المكلّف يجري المشاورات والإتصالات، لكن هناك من المراقبين من يرى أن الطريق ليس قصيرا وليس مفروشا بالورود. وبالتالي فعلى الرئيس المكلف اجتياز العديد من المطبات للوصول إلى حكومة توحي فعلا بالثقة، وقادرة على مواجهة التحديات التي تنتظرها عند أكثر من مطب ومفترق. وبين من يرى أن التشكيل سيكون أسرع من المتوقع، وبين من يرى أنه عملية طويلة، قاسم مشترك واحد هو أهمية ودقة الملفات المنتظرة خلف باب الحكومة. ومنهم من يشدد على أن دقّة الملفات وتعقيداتها ستشكل عقبة أمام التشكيل، ومنهم من يعتبر أن لهذه الخشية تأثير عكسي سيدفع القيّمين إلى الإسراع في التشكيل لتدارك ما هو أسوأ.

متطلبات “سيدر” في الرابع من نيسان الماضي انعقد مؤتمر «سيدر» في باريس لدعم لبنان. صحيح أن المؤتمر قدم دعما سخيّا للبنان، غير أن هذا الدعم كان مشروطا وتعهدت الحكومة آنذاك بإجراء الإصلاحات المتفق عليها في المؤتمر للحصول على المبالغ المقدّمة. ويشير الإقتصاديون إلى أن الحكومة اللبنانية أقرت بأهمية إجراء إصلاحات هيكلية وقطاعية لجذب استثمارات جديدة وإرساء بنى تحتية حديثة واستراتيجية. وتعهدت بإجراء الإصلاحات اللازمة لحل المشاكل وسد الثغرات الهيكلية وتشجيع الإستثمار العام والخاص في شكل مستدام. ويضيفون أن الحكومة شددت على مكافحة الفساد وتعزيز الحوكمة والمساءلة، لا سيما في إدارة المالية العامة وتحديث قواعد استدراج العروض وإصلاح الجمارك وتحسين إدارة الإستثمار العام ذات الأهمية البالغة، كما أن السلطات اللبنانية ستواصل دعم جهود مكافحة تبييض الأموال واتخاذ التدابير الرامية إلى مكافحة تمويل الإرهاب وفقا للمعايير الدولية.

هذه الإلتزامات وغيرها من التحديات التي تنكّبتها الحكومة السابقة، كان معلوما أن إنجازها سيكون على عاتق الحكومة الجديدة. فهي التزامات تمتد لسنوات ولذلك فما ينتظر الحكومة المقبلة كثير، والمنتظر منها كثير أيضا. وربما هو الأساس ومعيار التقييم في المرحلة الآتية الموضوعة تحت المجهر الدولي، والشعبي المحلي. فالملفات ذات الصلة هي ملفات ذات بعد خارجي وإن كانت محلية، ومنها النازحون ومكافحة الفساد، واستخراج النفط، وخصوصا تجفيف مصادر تمويل الإرهاب.

وهكذا فإن «سيدر» وحده كفيل بإثقال كتفي الحكومة الجديدة وبأن تنوء تحت موجباته إذا لم تتضمّن كفاءات مهنية وسياسية من جهة، ووجوهاً توحي بالثقة وجديّة في العمل لمصلحة حلحلة هذه الملفات من جهة ثانية، وإلا فإن ما جمعه المؤتمر وما هللت له الحكومة السابقة، سيندثر من دون جدوى أمام ناظري الحكومة المنتظر تسلمها هذه المهام في الآتي من الأيام.

ملفات النفط والغاز وقّع لبنان في شباط الماضي اتفاق التنقيب عن النفط والغاز. وبهذا التوقيع أنطلق العمل وتحديدا من البلوكين 4 و9 اللذين تم تلزيمهما في وقت سابق. وتلفت أوساط اقتصادية إلى أن التحدي المقبل أمام الحكومة هو ملف الطاقة، مع ما يفترض أن يرافق هذا الملف من خطوات وطنية تكفل مواجهة المخاطر التي تتهدد هذه الثروة سواء من الخارج أم من الداخل.

ويعلم الجميع أن مسيرة قطاع النفط طويلة وأن ما أنجز حتى الآن على أهميته لكنه خطوة في رحلة الألف ميل هذه، التي سيكون قسم كبير من العمل عليها حاضرا على طاولة مجلس الوزراء للسنوات المقبلة. ويوضح رئيس هيئة إدارة قطاع البترول وليد نصر أنه بعد المرحلة التقنية، أي مرحلة الاستكشاف، وفي حال تم التوصل إلى اكتشاف تجاري، تضع الشركات خطة لتطوير الحقول وتسويق الغاز. وهذه الخطة تحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء، وهي الأهم لأنها خطة التطوير ومرحلة مفصلية. إستنادا إلى ذلك يعتبر الخبراء أن أمام الحكومة المنتظرة ملفات دسمة لا يمكن التهاون بها أو التعاطي معها بخفة كما كان يحصل في السابق بالنسبة إلى هذا الملف ولملفات أخرى.

ويضيف نصر أن التحدي الأكبر تم تجاوزه، وهو التوصل إلى قرار في مجلس الوزراء بتلزيم البلوكين 4 و9. أما اليوم وبعد أن تم توقيع العقود فقد دخلت الشركات المؤهلة (توتال وايني ونوفاتيك) بنشاطات الاستكشاف. وهذه مرحلة تقنية والخطوة الأولى التي تتم فيها هي تقديم الشركات لهيئة إدارة البترول خطة للاستكشاف تحدد طبيعة النشاطات التفصيلية.

صحيح أن التحدي التقني الأكبر يقع على عاتق هيئة إدارة قطاع البترول وشركات الائتلاف الثلاث، لكن مهما كان التحدي التقني كبيراً، يبقى أقل صعوبة من التحديات المرتبطة بالقرارات السياسية. لذلك يعوّل المعنيون في لبنان والشركات الموقِّعة للعقود على حكومة متماسكة شفافة ومصممة على العمل لكي تتكامل الجهود وتحقيق المرتجى في أسرع وقت.

الفساد وبناء المؤسسات أما الملف الآخر الذي يفترض أن تتوقّف عنده الحكومة الجديدة فهو ترميم أو إعادة بناء المؤسسات الرسمية، التي تزخر بالكفاءات، لكنها تعاني تفشّي الفساد الإداري والترهل الوظيفي في العديد من مفاصلها. هذا الأمر يعيه المسؤولون جميعا، لكنّ نائبا عائدا إلى الندوة النيابية شدد على أن مسألة مكافحة الفساد وورشة التطوير الإداري يجب ألا يكونا مجرد بنود عادية على جدول أعمال الحكومة للمرحلة المقبلة، بل هدفا استراتيجيا يتجند الجميع لتحقيقه من دون محاولات الإلتفاف عليه التي كانت تجري سابقا. وأنه بغير ذلك فلا أمل في انتظار بناء دولة المؤسسات والشفافية الموعودة.وليس هذا فحسب بل إن الخبراء والسياسيين يحذرون من استمرار الفساد والهدر اللذين باتا يهددان بقوة استمرار الحد الأدنى من المناعة المالية والنقدية. فالدين العام المزداد ارتفاعا ومستويات النمو الإقتصادي التي لم تشفع بها كل المنشطات، فظلت متدنية. كلها عوامل باتت أكثر تهديدا لبنية الدولة وأكثر إلحاحا للمعالجة. الأمر الذي لن تجد الحكومة الموعدة مناصاً من خوض غماره والحد من تفشيه، على الرغم من التباينات التي ستنتقل إليها حكما من حكومة تصريف الأعمال الحالية، ومن التجاذبات التي تحكم بعضها المصالح الشخصية وانعدام المسؤولية. ولذلك فلا بد من ترشيد الانفاق وضبط هدر المال العام والحد من الصفقات والتلزيمات بالتراضي، والانتقال من الإقتصاد الريعي إلى الإقتصاد المنتج. كما يؤكد لـ»المسيرة» الخبير الإقتصادي والإستراتيجي البروفسور جاسم عجّاقة.

النزوح السوري همّ دائم اختتمت الحكومة آخر أيامها بإثارة مسألة النزوح السوري والأعباء التي يرتبها على لبنان، ما استدعى ردا توضيحيا من وزير الشؤون الإجتماعية النائب بيار بو عاصي فنّد فيه مجريات هذه المسألة ومخاطر التلاعب بها. فآثار النزوح السوري وتداعياته بدأت تظهر في مختلف المجالات، بعدما استضاف لبنان أكثر من مليون ونصف مليون نازح سوري، يضاف إليهم الذين يدخلون خِلسةً، و51 ألف فلسطيني وأكثر من 40 ألف لبناني كانوا يعيشون في سوريا. وتقدّر الخسائر الاقتصادية لهذا الواقع بمليارات الدولارات إضافة إلى ازدياد أعداد العاطلين عن العمل في لبنان، وكذلك من يعيشون تحت خط الفقر. وعلى الصعيد الصحي، تسبّبت الأزمة بزيادة الضغط على المستشفيات أكثر من قدرتها أو قدرة وزارة الصحة على التحمّل. فمعدّل الأسِرّة في المستشفيات في لبنان هو 3.5 أسرّة لكلّ 1000 شخص، وقد أدّى النزوح إلى زيادة عدد السكّان بنسبة 30 في المئة من دون أيّ زيادة مماثلة في الطاقة الاستيعابية للمستشفيات. فكيف ستتصرف الحكومة الجديدة تجاه هذا الواقع، علماً أن 40 في المئة من النازحين السوريين يستعمل المرافق الصحّية؟

ومع أن مؤتمر “سيدر” وغيره من الجهات لحظت هذا الأمر، إلا أن العديد من الآليات التنفيذية لم يوضع بعد. وفي ظل القانون الرقم 10 الصادر عن النظام في دمشق والذي ينص على مصادرة عقارات وممتلكات النازحين الذين لا يعودون إلى سوريا ويسجلون عقاراتهم خلال مدة محدودة، فإن الوقت داهم وعلى السلطات اللبنانية التحرك قبل فوات الأوان.

… وملفات أخرى تنتظر! هذه الملفات تطفو على السطح وتضغط على القلب، ولكنها ليست الوحيدة التي تنتظر الحكومة العتيدة والتي تحتاج إلى غرفة عناية فائقة لتدارك سلبيات استفحالها. وعند عرض معظم تلك الملفات لا يفوت أي متابع قضايا مثل اهتزاز القطاع العقاري وتوقّف المؤسسة العامة للأسكان عن استقبال طلبات جديدة، ودرجات المعلمين والأقساط المدرسية، والحقوق الضائعة لبعض متعاقدي القطاع العام، وتحركات المياومين والأجراء، والنظر إلى مستقبل الشباب باستيلاد فرص العمل بدل مراكمة الفرص الضائعة، والقدرة على إعداد موازنة 2019 التي من شأنها تخفيف العجز في المالية وضبط تنامي الدين العام، فضلا عن متابعة العقوبات الأميركية. وهل ستضع الحكومة الجديدة خطة طوارئ للبدء في عملية التطهير الإداري لمكافحة الفساد أم ستترك الأمور على غاربها، خصوصا أن تجربة وزارة مكافحة الفساد في الحكومة الحالية لم تكن مشجّعة ولا جدوى من تكرارها؟ وكل التقارير التي تضعها الهيئات والمؤسسات الدولية تضع لبنان في المرتبات الدنيا لجهة انعدام الشفافية والمحاسبة. وهنا يكمن التحدي.هذه العيّنة من التحديات مطروحة أمام الحكومة العتيدة ومجلس النواب الجديد. ويعلّق الإقتصاديون على كل هذه المسائل بالقول إن أقصى ما يتمنّاه المواطنون هو ترجمة الشعارات التي نادى الجميع بها منذ أسابيع خلت تحضيرا للإنتخابات النيابية وهي كانت كاشفة لكل هذه المسائل والمشاكل. فهل تشكل ولاية الحكومة الجديدة فرصة حقيقية لترجمتها وبدء وضع اللبنات الأساسية في بناء دولة المؤسسات التي ينتظرها الجميع؟

عرض المشكلة والحل في قراءة علمية تحليلية لهذا الواقع يقول البروفسور جاسم عجاقة، أنه لا يُخفى على أحد أن الملفات الإقتصادية والمالية والإجتماعية التي يعيشها لبنان هي ملفات مُزمنة تنتقل عبر الحكومات المُتعاقبة. وعلى رأس هذه الملفات يُمكن ذكر مُعالجة العجز في الميزان التجاري، ومعالجة العجز في الموازنة، وحلّ مُشكلة القطاع الحراري وخصوصًا ملف الكهرباء، ومعالجة التهرّب الضريبي، وإعادة هيكلة الإقتصاد اللبناني، ومحاربة الفقر، والأمان الإجتماعي، وتأهيل البنى التحتية والفوقية…

هذه الملفات المُزمنة هي في نظر عجّاقة نتاج إنقسام سياسي ومذهبي كما وربط الملفات السياسية بالملفات الإقتصادية مما يجعل المُعالجة العلمية لهذه الملفات شبه مُستحيلة. ولا يُمكن بالطبع نسيان عامل الفساد الذي يأخذ حصانته من مبدأ “المحافظة على السلم الأهلي” بشكل أن المسّ بموظّف فاسد يعني المسّ بطائفته! لا سيما أن الحكومات المُتعاقبة لم تنجّح بحلّ هذه المشاكل نظرًا إلى الوضع السياسي الهشّ الذي عاشه لبنان منذ إنتهاء الحرب الأهلية. لكن يُمكن القول اليوم إن هذا الأمر – أي معالجة الشقّ الإقتصادي – أصبح مُمكنًا مع التوافق بين الرئاسات الثلاث الأولى. أضف إلى ذلك الضغط الذي تعرّضت له الأحزاب السياسية خلال الحملة الإنتخابية التي سبقت الإنتخابات النيابية والذي جعل هذه الأحزاب تتعهّد علنًا بمحاربة الفساد. الجدير ذكره أن أي معالجة للشق الإقتصادي يجب أن يسبقها وضع حدّ للفساد نظرًا للتداعيات السلبية على اللاعبين الإقتصاديين: المستثمر والمُستهلك.

ويضيف عجاقة: “إن الإجراءات التي تنتظر الحكومة الجديدة هي إجراءات إقتصادية بإمتياز وأهمّها وبدون أي تردّد تحفيز الإستثمارات لأنه بحسب النظرية الإقتصادية “لا نمو من دون إستثمارات”. هذه الإستثمارات يجب أن تطال قطاعي الصناعة والتكنولوجيا بالدرجة الأولى لأنها تحل عدّة مشاكل في آن واحد (العجز في الميزان التجاري، تحويل الإقتصاد من ريعي إلى مُنتج، تُؤسسّ لبنية خداماتية للقطاع النفطي…). أيضًا من أهمّ الإجراءات، تحرير قطاع الكهرباء وتعديل القوانين بشكلٍ يسمح بجذب الإستثمارات وتسهيل مناخ الأعمال. ولا يُمكن نسيان مكافحة التهرّب الضريبي الذي يمتصّ قدرة الدولة على الإستثمار، إذ يُشكل ما يوازي 7.2 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي”.

ويرى أن “كل هذه الإجراءات لا يُمكن أن تتمّ إلا من خلال التوافق على آلية لإتخاذ القرارات الإقتصادية مُختلفة عن آلية إتخاذ القرارات السياسية. وهذه الآلية يجب أن تخضع لمعايير علمية هي الوحيدة التي يجب إعتمادها تحت طائلة التعطيل السياسي كما شهدناه في المرحلة السابقة”.

رابط المسيرة

Print Friendly, PDF & Email