Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

ماذا لو فرضت أميركا عقوبات مالية على تركيا؟

سؤال مطروح مع تفاقم ​الوضع المالي​ والنقدي في ​تركيا​ كنتيجة للأزمة الأميركية – التركية. فتهديدات الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ بفرض مزيد من ​العقوبات​ تُثير الرعب ليس فقط في تركيا بل أيضًا على الصعيد الأوروبي حيث أن فرض عقوبات مالية قد تطال ​المركزي التركي​ ستؤدّي حتمًا للقضاء على تركيا وإلى إندلاع أزمة مصرفية في ​أوروبا​.

Print Friendly, PDF & Email

موقع الإقتصاد \ بروفسور جاسم عجاقة

لم يعد يُخفى على أحد الرغبة الأميركية بتغيير النظام التركي والذي أصبح أقرب إلى السياسة الشرقية منها إلى حلف ​الناتو​ الذي تُشكّل تركيا أحد عناصره. مواقف الرئيس أردوغان من الأزمة القطرية – الخليجية دفعت ​دول الخليج​ وخصوصًا ​الإمارات​ العربية المُتحدة إلى الضغط على السياسة الأميركية في إتجاه رفع اللهجة مع ​أنقرة​ التي أصلًا أغضبت واشنطن من خلال سعيها الحصول على صواريخ أس 400 الروسية، مما يُشكل خطرًا إستراتيجيًا على حلف الناتو وعلى إستراتيجيته في أوروبا الشرقية و​الشرق الأوسط​ والأدنى.

​الإستراتيجية​ التركية تنصّ على إدخال الأوروبيين في اللعبة خصوصًا من خلال الشق الإقتصادي حيث أن علاقات تركيا مع ​الإتحاد الأوروبي​ هي علاقات مُهمّة وخطيرة. خطيرة نظرًا لحجم الإستثمارات الأوروبية في تركيا وإلى حجم ال​قروض​ الممنوحة من ​المصارف​ التجارية الأوروبية إلى المصارف التركية. وبالتالي وبفرضية فرض عقوبات مالية على أنقرة، فإن حجم الخسائر الأوروبية قد يكون كارثي على الإقتصاد الأوروبي وهو الذي يُعاني منذ عشر سنوات نتيجة ​الأزمة المالية العالمية​ وما تبعها من أزمة ديون سيادية.

الإقتصاد التركي ومنذ الإنقلاب في ثمانينات القرن الماضي، إعتمد بشكل كبير على ثلاثة رافعات أساسيات : الإستدانة من المصارف الأجنبية، الإستثمارات الأجنبية المُباشرة، وبشكل أقلّ على تحاويل المُغتربين الأتراك. وكل هذه الرافعات هي رافعات خارجة عن إرادة الإقتصاد التركي وترتبط كثيرًا بالسياسة الداخلية والخارجية التركية.

الإستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا بلغت أوجها منذ العام 2005 حيث وصلت إلى ذروتها في العام 2007 لتُعاود الإنخفاض خلال الأزمة المالية العالمية. لكنها عادت وإرتفعت في العام 2011 مع بدء ​الأزمة السورية​ حيث أن العديد من المُستثمرين السوريين نقلوا أموالهم إلى تركيا حتى العام 2015. إلا أن الإنقلاب الفاشل في تركيا أظهر عامل مُقلق للمستثمرين ألا وهو عدم الثبات السياسي فإنخفضت الإستثمارات إلى أقلّ من 10 مليارات من الدولارات الأميركية في العام 2017، ومن المُتوقّع أن تنخفض هذه الإستثمارات هذا العام إلى بضعة مليارات.

تحاويل المُغتربين (مليار د.أ) تأتي بالدرجة الأولى من البلدان الأوروبية حيث تُشكّل ​ألمانيا​ نصف هذه التحاويل. وبالتالي فهي عرضة للضغوطات الأوروبية على النظام التركي خصوصًا المرحلة التي إتهمت فيها الدول الأوروبية تركيا بإنتهاك حقوق الإنسان وبالتحديد بعد الإنقلاب الفاشل وحمّلة الإعتقالات التي طالت المُعارضين. وبالتالي نرى أن هناك إنخفاض ملحوظ لهذه التحاويل منذ العام 2015.

أما قروض المصارف الأوروبية للمصارف التركية فتبقى النقطة الأضعف في هذه المنظومة. فحجمها الهائل يجعل من الإتحاد الأوروبي وخصوصًا ​المصرف المركزي الأوروبي​ يعيش حالة من الهلع مع إرتفاع هذه القروض إلى أكثر من 150 مليار دولار أميركي. وبالتالي فإن أي إفلاس تركي أو أية عقوبات أميركية على تركية فإنها ستضع هذه المصارف في أزمة سيغوص معها الإقتصاد الأوروبي!

لكن حتى ولو فرضنا أن الولايات المُتحدة الأميركية لم تفرض عقوبات مالية، فإن ضعف ​الليرة التركية​ يُشكّل بحدّ ذاته مصدر قلق لمصارف أوروبية (BBVA، BNP Parisbas،UniCredit …) التي أعطت قروض هائلة لبلد يعيش حالة من عدم الثبات السياسي وهنا يُطرح السؤال عن مدى فعّالية السياسية النقدية الأوروبية! الجدير ذكره أن حاكم مصرف ​لبنان​ أصدر تعميمًا منع من خلاله المصارف اللبنانية من الإستثمار في تركيا على الآمد البعيد.

والأصعب في الأمر أن ضعف الليرة التركية يجعل عملية التحوّط ضد إنخفاض العملة التركية عملية مُكلفة جدًا. لذا إنخفضت أسهم المصارف المعنية في كل من ​فرنسا​، ​إسبانيا​ و​إيطاليا​ بنسب كبيرة كعلامة للمخاطر التي تتعرّض لها هذه المصارف.

وكأن هذا الإطار الأسود لا يكفي، تأتي الإستحقاقات المالية المُقدّرة بـ 210 مليار دولار أميركي في الأشهر القادمة لتُلقّي بشبح الإفلاس على تركيا ومعها الإنهيار الإقتصادي. فسيكون من شبه المُستحيل في ظل الظروف السياسية الحالية أن تعمد أي دوّلة أو مصرف إلى ​إقراض​ تركيا وخصوصًا في ظل الغموض حول نوايا الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فرض عقوبات مالية على تركيا لعدم الإفراج عن القس الأميركي المسجون في تركيا منذ أكثر من عامين.

ما هي الخيارات المطروحة؟

في الواقع الخيارات أمام تركيا شبه معدومة وتقتصر على الإنصياع إلى الرغبة الأميركية (تحرير القس الأميركي، وإلغاء صفقة الـ أس 400) أو الإفلاس. وبفرضية أن قطرّ هبّت إلى مساعدة تركيا، فإنه من الصعوبة على قطر إقراض تركيا مبلغ 210 مليار دولار أميركي في الأشهر القادمة بإعتبار أن قطر تعيش أزمة حصار من قبل الدوّل الخليجية الأخرى وبالتالي فإن حاجتها للعملة الأجنبية تبقى عالية ناهيك عن قدرة قطر على معارضة الإرادة الأميركية في ما يخص تركيا. أما إحتمال طلب مساعدة ​صندوق النقد الدولي​، فتبقى رهينة الموقف الأميركي والتشدّد المُحتمل من قبل الإدارة الأميركية.

من هذا المُنطلق، نرى أنه من الحكمة أن يعمد النظام التركي إلى تنفيذ المطالب الأميركية والسعي الجدّي إلى التخفيف من تعلّق الإقتصاد التركي بالتمويل الخارجي نظرًا إلى الترابط الكبير بين الخيارات السياسية التركية وحركة ​رؤوس الأموال​. أما في ما يخصّ المصارف الأوروبية، فنرى أنه وفي حال تمّ فرض عقوبات أميركية على النظام التركي، فإن الخسائر ستكون مُرتفعة وسيعمد المصرف المركزي الأوروبي إلى دعم هذه المصارف بالأموال تفاديًا لإنهيار ​القطاع المصرفي​ الأوروبي.

Print Friendly, PDF & Email
Source رابط الإقتصاد