Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

المواطن بين مطرقة ارتفاع الأسعار وسندان الضائقة الاقتصادية

مع بداية كلّ موسم دراسي جديد تعلو صرخة الأهالي جراء الارتفاع غير المبرر لقيمة الأقساط المدرسية، في ظل أزمة اقتصادية خانقة يعيشها لبنان، والتي لم تعد محصورة كما في السابق بشهر ايلول (كونه شهر المدارس والكتب والقرطاسية وشهر التحضير إلى فصل الشتاء)، إنما توزعت على أشهر السنة كافة مع استمرار العجز والهدر والفساد في كل الملفات، بالاضافة إلى تراجع النمو، وتراجع الانتاج في القطاعات الصناعية والزراعية والتجارية. معاناة الأهل يقول خالد، وهو أبٌ لثلاثة أولاد، لـ«المستقبل»: «لم تعد الضائقة الاقتصادية محصورة بشهر أيلول فقط كونه شهر الاستحقاقات المدرسية وغيرها من الالتزامات، بل أصبح المواطن يعيش خنقة اقتصادية ومعيشية واجتماعية خلال أشهر السنة كافة».

برأيه، «الخنقة تبدأ بالأقساط المدرسية من الحضانة ومستلزماتها ولا تنتهي بالمراحل الجامعية، انما تستمر إلى ما بعد الجامعة كون معظم الخريجين عاطلون عن العمل، أو بالحد الأدنى يعملون في غير اختصاصهم، وهذا بحد ذاته أزمة ليست على الأهل فحسب إنما خسارة كبيرة على الاقتصاد اللبناني».

يضيف: «أصبحنا نعيش في دوامة لا تنتهي.. ندفع الملايين من أجل تعليم أولادنا علهم يعيشون بكرامة في وطنهم. فهل يُعقل أن يصل قسط المدرسة للطالب الواحد في مدرسة عادية إلى 12 مليون ليرة لبنانية؟ هذا عدا الكتب والقرطاسية ولوازم المدرسة خلال العام الدراسي؟ نعم أنا ادفع 36 مليون ليرة فقط أقساطاً مدرسية في لبنان».

ويختم خالد حديثه بالقول: «إن ارتفاع الأقساط المدرسية هي الأزمة الحقيقية للأهل، فالجميع يريد أن يُقدم لأولاده أفضل التعليم، ولو أن مستوى المدارس الرسمية مرتفع كباقي الدول، ومضبوطة إدارياً وتعليمياً وترفيهياً كالمدارس الخاصة، فأنا أول من يضع أولادي فيها، ولكن للأسف أي مؤسسة تابعة للدولة هي مهملة كي لا أقول فاشلة».

رأي وليد لا يختلف عن رأي خالد من حيث تكلفة التعليم التي «تخطت بنظره الحد المعقول في بلد حده الأدنى للأجور لا يكفي ثمن إيجار غرفة واحدة». هو يقول لـ«المستقبل»: «لم يشهد لبنان ضائقة اقتصادية كالتي نعيشها اليوم على المستويات المعيشية كافة ومن دون استثناء، لقد اضطررت أن أترك منزلي في بيروت واستأجرت في عرمون كون الإيجار أقل، واقتصدت في أشياء كثيرة كي أُدخل أولادي الثلاث المدرسة خصوصاُ وانهم في المراحل الابتدائية، وها أنا اليوم لم أعد استطيع تسجيلهم في المدرسة الخاصة، وقررت هذا العام نقلهم إلى مدرسة رسمية لكني تفاجأت أني بحاجة إلى «واسطة» كي يتم تسجيلهم، وها هم اليوم خارج المدرسة، كون المدرسة الرسمية لم تعد للبنانيين».

يحاول وليد أن يُخفي دمعته بابتسامة صفراء لكن سرعان ما تخذله لتتساقط كأوراق أيلول الحزين في بلد لم يعد للمواطن اللبناني أمل في ربيع يزهر على أطفاله. ليضيف بصوت متقطع «لا أعلم إلى أين نحن ذاهبون في هذا البلد، كل يوم يمر أصعب من الآخر في ظل غلاء فاحش، وضرائب مرتفعة، وخدمات لا تليق بمواطن يدفع كل ما يملك كي يعيش بكرامة، ناهيك عن غلاء الطبابة التي هي حق المواطن على دولته، لكن هل من يسمع..».

الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها اللبنانيون اليوم لا تنحصر بالمتزوجين فقط، إنما تمتد لتصل إلى فئة الشباب أيضاً في ظل مستقبل مجهول. رامي هو نموذج عن هذه الفئة، وهو مقبل على زواج. يتساءل عبر «المستقبل» لماذا نُكلف أهلنا كل هذه المصاريف على التعليم ما زال راتب الواحد منا لا يتجاوز الـ1000 دولار؟.

وهو يفكر في الهجرة.. «لا يستطيع الشاب اليوم بناء أسرة صغيرة في هذا البلد. فأبسط حقوقنا مسلوبة، فلو أن الدولة استطاعت تأمين التعليم والطبابة فقط مجاناً كبقية الدول لعاش اللبناني بحد أدنى كالموجود اليوم، ولكن مع الاسف يُصاب المواطن بالأمراض من شدة الضغوط المالية التي يتعرض لها من أجل تأمين التعليم لأولاده، وهو يدري أن التعليم أصبح استثماراً خاسراً في لبنان».

ولكن هل فعلاً اصبح التعليم في لبنان استثمار خاسر؟

حنا يعتبر الخبير الاقتصادي مازن حنا في حديثه لـ«المستقبل»:«أن التعليم والطبابة هما الركيزتان الأساسيتان لأي سياسة اجتماعية، وفي حال استطاع المواطن تأمينهما، فهذا دليل ايجابي لمستقبل الاقتصاد في أي بلد من البلدان، على عكس ما نشهده اليوم في لبنان، نتيجة الغلاء الفاحش في التعليم والطبابة إضافةً إلى الطعام. وعندما لا يستطيع المواطن تأمين اساسياته (مأكل، تعليم، استشفاء) فهذا مؤشر سلبي للاقتصاد تماماً كما هو حالنا اليوم. ولكن رغم كل ذلك، لا نستطيع القول ان التعليم في لبنان هو استثمار خاسر، رغم كل الظروف الصعبة التي يعيشها الاقتصاد اللبناني ورغم ارتفاع تكلفة التعليم في لبنان».

يضيف:«المشكلة الأساسية في لبنان تكمن في نسبة الاستيراد المرتفعة للسلّة الاستهلاكية في لبنان حيث وصلت إلى نحو 75 في المئة، وهذا ما يجعل أسعار السلع تتأثر بحسب ارتفاع العملات الخارجية (أي الدولار واليورو). إضافةً إلى ذلك، هناك المفاعيل السلبية التي سببتها سلسلة الرتب والرواتب، التي زادت بدورها نسبة التضخم في لبنان علماً أننا نعيش اليوم ركوداً اقتصادياً، وهذا اسوأ ما يصيب المجتمعات، لأن التضخم عادةً يأتي في ظل ارتفاع نسبة النمو. أما في حال الانكماش الاقتصادي، فمن المفروض أن تنخفض الأسعار، وهذا ما لا نراه اليوم في لبنان».

ولكن يبقى السؤال لماذا وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم؟

برأي حنا هناك عوامل خارجية ساهمت في التراجع الحاصل اليوم على المستويات الاقتصادية والاجتماعية كافة، منها الحرب السورية، والأزمات الخليجية جراء الحروب في مناطق عربية مختلفة، إضافةً إلى أزمة النفط العالمية وغيرها من العوامل التي أثرت على لبنان بشكل سلبي. كما هناك عوامل داخلية كغياب الصلاحات الاقتصادية في محطات عديدة، و«باعتقادي سلسلة الرتب والرواتب التي نعيش مفاعيلها اليوم والتي أدت إلى زيادة الضرائب ساهمت بطريقة مباشرة في ارتفاع نسبة التضخم».

يتابع حنا: «الحلول باتت أكثر من ضرورية اليوم، لذلك على المسؤولين تحييد السياسة عن الاقتصاد، والعمل بجدية أكبر من أجل النهوض بالبلد، وتشكيل حكومة متماسكة ومتجانسة بأسرع وقت تقوم بالاصلاحات، وتعمل على تفعيل مؤتمر سيدر».

لبنان مرّ بأزمات اقتصادية عديدة، لكن بحسب حنا، لم يصل إلى هذه المرحلة التي نعيشها اليوم اقتصادياً، على الرغم من الأزمة التي حصلت عام 1998-2000، و«هي شبيهة بالأزمة التي نمر بها اليوم مع اختلاف بالأرقام (التضخم، النمو، والدين العام)، ولكن كان هناك شخص اسمه رفيق الحريري لديه رؤية اقتصادية واضحة وكان عامل ثقة أساسي بالنسبة للمستثمرين. لقد استطاع الرئيس الشهيد آنذاك تخطي هذه الأزمة بعد الجرعات التي حصل عليها لبنان في مؤتمري باريس1 وباريس2، لذلك نحن بحاجة اليوم إلى تفعيل مؤتمر «سيدر» والاستفادة من نتائجه من أجل النهوض بالاقتصاد مجدداً».

عجاقة رأي البروفسور جاسم عجاقة يختلف في ما خصّ التعليم في لبنان عن رأي حنا، اذ يعتبر في حديته لـ«المستقبل»: «إن أي استثمار يقوم به الفرد مهما كان نوعه ينتظر أن يكون له مردود ليس بالضرورة على المدى القريب. فاذا أخذنا قطاع التعليم في لبنان نلاحظ أن تكلفة تعلم الفرد بمستوى أكاديمي مقبول تصل إلى نحو 160 ألف دولار، السؤال أين هي عائدات هذا الاستثمار؟».

يضيف: «تُقدر عائدات المدارس في لبنان بحوالى مليارين و265 مليون دولار، أما عائدات الجامعات فتُقدر بحوالى مليار و620 مليون دولار، يبلغ مجموعهما حوالى 3 مليارات و880 مليون دولار، هذا الاستثمار في الاقتصاد لا نستقيد منه ابداً بالماكينة الاقتصادية الوطنية، وهذه هي الخسارة الحقيقية. لذلك نستطيع القول أن القيمة الصافية الحقيقية للتعليم في لبنان سلبية».

يتابع عجاقة:«إذا افترضنا أن:

1- معدّل عام تسجيل تلميذ في المدارس الخاصة في لبنان (من الحضانة إلى البكالوريا) تصل إلى نحو 80 ألف دولار تقريباً.

2- تكلفة الإجازة بمعدل عام أيضاً تصل إلى نحو 40 ألف دولار.

3- تكلفة متابعة صفوف دراسات عليا تصل إلى نحو 40 ألف دولار.

عندها، نستنتج أن تكلفة تعلم الفرد في لبنان بمستوى أكاديمي مقبول تصل إلى نحو 160 ألف دولار تقريباً، واذا كانت العائلة مؤلفة من ثلاثة اولاد قد تصل تكلفة تعليمهم إلى نحو 480 ألف دولار، ولولا المساعدات من أرباب العمل إلى الموظفين ومن الدولة لموظفيها، لا أحد يستطيع تعليم أولاده في مدارس خاصة، خصوصاً ان الثقة في المدرسة الرسمية صفر».

الحلول برأي عجاقة تبدأ «عندما تتدخل الدولة بموازنات المدارس والجامعات الخاصة من أجل الشفافية فقط كونها شأن عام وإن كانت مدارس خاصة، كما يجب على الدولة أن تخصص من موازنتها من أجل دعم الاستثمارات بقطاعات انتاجية تستطيع استيعاب أعداد المتخرجين وتوظيفهم».

على الرغم من التكلفة الباهظة التي يتكبدها الأهالي سنوياً من أجل تعليم ابنائهم، إلا أننا لا نستطيع أن نغفل عن جودة التعليم في لبنان والتي أصبحت اليوم تضاهي أهم الدول في العالم. فقد احتلت الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة القديس يوسف مركزاً متقدماً بين الجامعات العالمية، وادرجتا في تصنيف مؤسسة «كيو أس» البريطانية العالمية (QS) للسنة 2019 بين أفضل 500 جامعة في العالم. الأولى احتلت المركز 237 والثانية المركز 500. في حين حجزت أربع جامعات لبنانية أخرى مركزاً بين أفضل ألف جامعة عالمية، وهي جامعة البلمند في المرتبة بين 591 – 600، الجامعة اللبنانية الأميركية في المرتبة بين 601 – 650، جامعة الروح القدس – الكسليك بين 651 – 700، وجامعة سيدة اللويزة في المركز بين 801 – 1000.

رابط المستقبل

Print Friendly, PDF & Email