Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

خطة لتمويل سلسلة الرتب والرواتب

إنّ التنكّر لحق الموطفين بالمفعول الرجعي للسلسة هو فشلٌ جديد يُدوّن على سجل الطبقة السياسية التي لم تستطع تأمين المداخيل. هذا المفعول الرجعي هو حقٌ للموطفين ويجب إعطاؤه لهم، لكن في الوقت نفسه يجب تأمين التمويل وعدم السماح بدفع السلسلة كما هي. يُعتبر تصحيح الأجور عُرفاً عالمياً معمولاً به، وهو بالأحرى تصحيحٌ لآلية عمل الماكينة الإقتصادية. هذا التصحيح يجب أن يتم كل عام في الأول من تموز ويشمل زيادة الأجور كما وتسعيرة الخدمات العامة المقدمة من الدولة لشعبها.

وعلى رغم كلّ الدراسات التي تناولت مشروع سلسلة الرتب والرواتب في لبنان، لم تتمكن أيّ منها من إعطاء الموظف حقه كما وتأمين التمويل مع لجم التداعيات على الإقتصاد. وهذا الفشل يأتي من ثلاثة عوامل أساسية: الإذعان للضغط، خطأ في المنهجية المتبعة، وعدم مواجهة حقيقة المالية العامة.

لا يُمكن القبول برفع الضريبة على القيمة المضافة مع الوضع الإقتصادي الحالي، فهذه الضريبة تطال بشكل مباشر النشاط الإقتصادي وتُقلل من القدرة الشرائية لدى كل المواطنين وبالتالي ستضرب الإستهلاك، الركن الوحيد الباقي. كما لا يُمكن القبول بقضم حقوق الموظفين بعض النظر عن أدائهم لأنّ هذا إستخفاف بالحياة الإنسانية ومسّ بقدسية الملكية.

خطة لتمويل السلسلة…

إنّ تمويل السلسلة يتعلق بشكل أساسي بالطريقة التي سيتمّ الدفع بها للمواطن. فالكل يعتقد أنّ دفع السلسلة سيتم نقداً حيث سيرى المواطن حسابه الجاري منفوخاً بقيمة المستحقات. وهذا خطأ رئيسي يرتكبه الجميع لأنّ الإقتصاد لا يسمح بدفع السلسلة نقداً والعكس كفيل برفع التضخم إلى 6

وهذا الرقم نابع من إحتساب كلفة السلسلة على ثلاث سنوات (1800 x2.5 مليار ليرة لبنانية) في خانة الكتلة النقدية 1 (M1). لكن، إذا تمّ توزيع المبلغ على الكتل النقدية الأربع فيمكن خفض هذا التضخم إلى أقل من 1

بمعنى آخر تقوم الدولة بدفع قسم من المبلغ المستحق على شكل نقد (وهذا يُقلّل قيمة الكتلة النقدية 1 وبذلك التضخم) والقسم الأخر يتمّ دفعه على شكل سندات خزينة لصالح المواطن اللبناني. بهذا تتفادى الدولة ثلاث مشكلات في الوقت نفسه: عدم إعطاء الموظف كامل حقه، مشكلة التمويل، ومشكلة التضخم.

هل هذا السيناريو ممكن؟

الجواب نعم. هذا السيناريو ممكن لا بل يُمكن القول إنه الوحيد إذا ما أراد الجميع الخروج من هذه الأزمة بلا أضرار إجتماعية وإقتصادية. إذا أرادت الدولة تمويل السلسلة، على أساس إعطاء الموظفين كامل حقوقهم، فأمامها ثلاثة حلول: إصدار سندات خزينة لإقتراض المبلغ بالكامل، رفع الضرائب وعلى رأسها الضريبة على القيمة المضافة أو الإثنين معاً.

وكلّ هذه الإجراءات تضرّ بالدرجة الأولى بمالية الدولة نظراً لضخامة المبلغ المستحق. وبدل الإقتراض من السوق ليس على الدولة إلّا الإقتراض من المواطنين الذين سيجدون أنّ قسماً كبيراً من الأموال المستحقة هي في عهدة الدولة على شكل دين. بالطبع هذا سيزيد الدين العام ولكنّ الدولة اللبنانية لن تكون تحت رحمة الأسواق وهذا سيعفيها من تأمين التمويل بكامله.

لكن هل ستقبل النقابات العمالية؟ إنّ عدم قبول النقابات العمالية بهذه الخطة سيكون بمثابة إنتحار لأنها تُعرّض الإقتصاد للهلاك إذا ما أخذت كل مطالبها أو تُعرّض الموظفين لقضم حقوقهم. وفي كلا الحالتين ستكون التداعيات الإجتماعية كارثية.

كيف سيتمّ تأمين المبلغ لهذا العام؟

من الواضح أنه لا يُمكن تأمين المبلغ من الضرائب على النشاط الإقتصادي وخصوصاً الضريبة على القيمة المُضافة (تحية للنائب عضو في اللجنة المختلطة الذي إعترض على رفع الضريبة على القيمة المضافة) لأنّ هذا الإجراء يذهب بعكس روح تصحيح الأجور أي زيادة القدرة الشرائية للمواطن. لذا، من الضروري الإتجاه إلى الإصلاحات والتي تطال كل مؤسسات الدولة.

وتأمين مبلغ 900 مليار ليرة من الإصلاحات هذا العام هو شبه مستحيل، لذا نرى أنّ كلّ إقتراحات التمويل الواردة في تقرير اللجنة المختلطة يمكن إعتمادها لتأمين المبلغ بإستثناء رفع الضريبة على القيمة المُضافة. لكنّ هذا لا يعني أنه لا يجب البدء بالإصلاحات هذا العام، بل على العكس يجب البدء بها فور صدور القانون لكي تُعطي مفعولها إبتداءً من العام المُقبل.

ما هي الإصلاحات التي تؤمّن 1800 مليار ل.ل. سنوياً؟

الإصلاحات كثيرة، لكنّ المواطن العادي وعند طرح هذا السؤال، يُفكر مباشرة بالفساد الذي يحرم الدولة عشرة أضعاف كلفة السلسلة. وتبدأ الإصلاحات ببسط سلطة الدولة المالية على المرافئ العامة، التشدد بجلب الضرائب والفواتير (هناك مستحقات للدولة بقيمة 3 مليار دولار على شكل ضرائب وفواتير غير مدفوعة)، محاربة الفساد في التخمينات العقارية، إزالة المخالفات وعلى رأسها الأملاك البحرية والنهرية ومخالفات البناء، محاربة الفساد في الدوائر الرسمية ومحو السمسرة من قاموس الدولة، وغيرها من الإصلاحات الكفيلة بإعطاء الدولة حقها في الضرائب والرسوم وبالتالي تأمين النفقات ومن بينها سلسلة الرتب والرواتب.

لكنّ الإصلاح الأساسي الواجب العمل عليه هو إعفاء الإقتصاد من التسييس وتفادي أخذه في متاهات السياسة التي تُعيق تطوّره. هذا التسييس يحرم الدولة اللبنانية وبالتالي المواطن من ثروات طائلة كان ليستفيد منها لو لم يكن الإقتصاد مسيّساً. ويُعتبر ملف النفط المثال الأول على التجاذب السياسي في الإقتصاد وهذا ما لا نراه في الدول المتطورة حيث تؤمن الكوادر العليا إستمرارية سياسات الطبقة السياسية وذلك بعض النظر عن لون الحكم.

الإرادة أساس النجاح…

هذه الإرادة يجب أن تكون من الجانبين أي لدى الموظفين والمسؤولين لأنها شرط أساسي لإيجاد حل للخروج من أزمة سلسلة الرتب والرواتب والتي قد تتطور إلى أزمة إجتماعية قد تهدد النظام بأكمله. وقد يظنّ البعض أنّ الوقت ليس مناسباً لأنّ هناك إستحقاقات أهم كالإنتخابات الرئاسية والنيابية والأزمة السورية وغيرها من الملفات المهمة. لكنّ الواقع هو أنّ هذا الملف قد يكون الأخطر على كيان الدولة اللبنانية إذا لم يتم التعاطي معه بجدية.

من هنا ندعو المسؤولين والهيئات النقابية إلى أخذ هذا الإقتراح على محمل الجدّ لإعفاء لبنان من كوارث إجتماعية وإقتصادية لن تتأخر بالظهور، ولا سيما الإقتصادية، لأنّ فقدان الفرص هو السبب الرئيس وراء فقدان النموّ الإقتصادي.

رابط الجمهورية

Print Friendly, PDF & Email