Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

إستراتيجية القطاع العقاري تُحدّد مستقبله

في غياب أيّ إستراتيجية خاصة به، سيبقى القطاع العقاري في لبنان رهن الأوضاع الأمنية والسياسية المحلية والإقليمية. هذا القول هو نتيجة تحليلٍ للوضع في القطاع العقاري الذي يعاني ركوداً في حجم العمليات مع ثبات الأسعار. لذا يتوجب على القيّمين عليه أن يعمدوا إلى مقاربة السوق عبر طريق مختلفة.  يعيش القطاع العقاري في لبنان حال ركود مع ثبات بالأسعار. وهذا الوضع المُخالف للقواعد الإقتصادية التي تنص على أنه وفي غياب الطلب (الطلب يعني تحقيق عملية الشراء) يجب أن تنخفض الأسعار، يُمكن أن يدوم عشرات السنين وذلك بفعل عوامل خارجة عن النطاق الإقتصادي.

العرض والطلب…

هناك ميزات في السوق اللبنانية لا توجد في الأسواق العالمية الحرة. هذه الميزات تتدخّل في العرض والطلب وتحول دون أن يلعب هذا الأخير دوره الطبيعي في الإقتصاد:

أولاً، العامل المذهبي: أدّت الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان في أواسط سبعينات القرن الماضي إلى فرزٍ مذهبي زادت حدته في العامين الماضيين. وهذا حرّم على اللبناني أن يستفيد من العرض الإجمالي في كل المناطق لا بل حصر خياره في بعض المناطق المُتاحة له.

ما خلق حالة غير طبيعية (Biais) في السوق العقارية من ناحية أنّ بعض المناطق مطلوبة أكثر من غيرها وسكانها لا يمتلكون بالضرورة القدرة على شراء عقارات. من هنا نرى تدخل بعض السلطات البلدية لمنع بعض العمليات العقارية «المشبوهة». وهذا الوضع الشاذ ما هو إلّا نتيجة غياب سياسة إنمائية مناطقية وعلى رأسها غياب اللّامركزية والتي من المفروض أن تُخفف من حدّة هذا العامل.

ثانياً، جغرافية لبنان: إنّ جغرافيّة لبنان على تقاطع القارات القديمة، جعلت منه بلداً مرغوباً به على كل الأصعدة وكان ليتبوأ المركز الأول إقليمياً لولا الحروب والإنقسامات التي تعصف به. لكنّ الصفة الأكثر تأثيراً كانت ولاتزال صغر مساحته التي تحد من الأراضي الصالحة للبناء.

ثالثاً، هيكلة الإقتصاد اللبناني: إن إنفتاح لبنان إقتصادياً وهذه نقطة إيجابية في المُطلق، لكنها لعبت دوراً سيئاً في صقل هيكلية السوق. فمعظم العمليات التي تمت كانت تعتمد بنسبة كبيرة على مداخيل خارجية من المغتربين اللبنانيين ومن الأجانب.

وقد يظنّ القارئ أنّ في هذا عامل إيجابي إلّا أنّ مجرد معرفة أنّ النشاط الإقتصادي المحلي لا يكفي لتمويل هذه العمليات، يسمح له بالإستنتاج أنّ أيّ أزمة إقتصادية عالمية و/أو أيّ أزمة سياسية مع البلدان المُستثمرة قد توقف القطاع بأكمله. وفعلاً هذا ما نُشاهده حالياً مع الخليجيين الذين يُقاطعون لبنان ومع إنخفاض رؤوس الأموال المُرسلة من المغتربين اللبنانيّين بسبب الأوضاع الإقتصادية العالمية.

رابعاً، عدم تناغم العرض مع الطلب: فعمظم الشركات توجه عروضاتها إلى الطبقة الغنية والقسم الأعلى من الطبقة المتوسطة. والدليل أنّ شاباً موظفاً لا رأسمال لديه، لا يُمكنه إمتلاك شقة!

إنعدام المرونة في الأسعار…

كلّ العوامل المذكورة أعلاه أثرت بشكل كبير في الأسعار، والنتيجة الأسعار ثابتة وذلك على الرغم من إنخفاض الطلب. وهذا يعود إلى الأسباب التالية:

– قلة مساحة الأراضي الصالحة للبناء وإستغلال البائع هذا العامل كسببٍ رئيسي للمحافظة على أسعار عالية؛

– زيادة عدد السكان واللاجئين لدرجة أصبح من الأكيد أنّ الطلب سينفجر مع الوقت. وهذا يعني أنّ صاحب العقار يتوقع إرتفاعاً في الأسعار ويُفضل عدم البيع بإنتظار غدٍ واعدٍ؛

– إقتناع الشاري والبائع أنّ الأسعار لن تنخفض. وحتى لو لم يكن من سبب مقنع للإنخفاض، إلّا أنّ إقتناع العنصرَين الأساسيَّين في العملية بأنّ الأسعار لن تنخفض كافٍ لوقف إنخفاض الأسعار؛

– إقتناع اللبناني أنّ إمتلاك الحجر هو أفضل من إمتلاك النقد. وساعد على هذا الإعتقاد، الوضع الإقتصادي والخطر المُحدق بالليرة اللبنانية نتيجة إحتمال إقرار سلسلة الرتب والرواتب وما لها من عواقب على التضخم.

تحديات تمنع تطوّر هذا القطاع…

ليس خفياً على أحد أنّ القطاع يعيش حالة ركود وذلك منذ أذار 2010 تاريخ صدور تقرير الإدارة الأميركية حول تبييض الأموال في العالم، والذي لحظ لبنان كبلد محتمل يمر عبره قسم من هذه الأموال. وزاد الوضع سوءاً تفاقم الأزمة السورية وتداعياتها على الشارع اللبناني ما ضرب القطاع الإقتصادي وبالتالي قدرة اللبناني المُقيم على تمويل عمليات عقارية. كما أنّ المقاطعة الخليجية وتدنّي قيمة الأموال المُرسلة من المغتربين اللبنانيّين إلى ذويهم لعبت دوراً سلبياً على القطاع.

لذا تبرز إلى العلن نقطتان أساسيتان:

أولاً: وجوب مطابقة العرض مع الطلب المموّل من النشاط الإقتصادي الداخلي لضمان إستمرارية نموّ هذا القطاع.

ثانياً: وجوب إتباع تنظيم مدني يحترم البيئة ويسمح بإستيعاب الأجيال القادمة والتي هي في إزدياد مستمر؛

إنّ مجرد الإقتناع بأنّ الطلب سيعود كما كان في الأعوام 2005 إلى 2010، هو إعتقاد خاطئ، إذ إنّ اللبناني ذي الدخل المتوسط لا يُمكنه شراء مسكن ثانٍ قبل 15 إلى 20 عاماً. وإذا ما كان هناك من طلب سيكون من الطبقة الميسورة والتي عادة ما يكون عددها محدوداً.

لذا إذا كان اللبناني العادي لا يستطيع الشراء لأسباب مادية، والفرز الطائفي لا يسمح بدخول الآخر إلى الساحة (العمليات التي تتم لشراء عقارات في مناطق غير منطقة الشاري تتم بالسر وبالتالي عددها محدود)، وإذا كان الخليجي لا يشتري بسبب الفيتو على لبنان، لماذا إذاً تدأب الطبقات الميسورة على امتلاك هذا الكمّ من العقارات؟

نموّ آني…

إنّ مشكلة العقارات في لبنان تأتي من قانون الإيجارات. وعلى الرغم من القانون الذي أُقرَّ حديثاً إلّا أننا نرى أنه لم يحلّ أزمةَ شباب في مقتبل العمر، يطمحون لحياة عائلية كريمة تحت سقف ليس بالضرورة ملكاً لهم. فإمتلاك شقة لعشرات السنين دون أن يقطنها شخص، هو بحدّ ذاته غير مُنصف إجتماعياً ويجب على كل من يُمارسه الإشتراك في الشق الإجتماعي للدولة عبر دفع ضرائب. لذا فإنّ مجرد فرض ضرائب على الشقق الشاغرة سيحرّر ما لا يقل عن مئة ألف شقة في لبنان.

لذا يستنتج القارئ أنّ جزءاً كبيراً من الطلب الذي حصل في الأعوام السابقة ناتج من مشكلة عدم القدرة على إستئجار شقة. وهذا يعني أنّ النموّ الذي شهده هذا القطاع هو نموّ آني ولن يتطوّر أكثر في الأعوام القادمة إلّا إذا إعتمدت الشركات العقارية والحكومة اللبنانية إستراتيجية مختلفة.

أيضاً نرى أنّ هناك مشكلة في طريقة البناء في كل مكان وفي كل مساحة من دون الأخذ في الإعتبار الشقّ البيئي، وعلى هذا المعدل سيتحوّل لبنان وخصوصاً بيروت وجبل لبنان، إلى «بلوك من الباطون» حيث سيفتقد المرء المساحات الخضراء والتي سيكون لها تأثير بيئي من ناحية المياه والهواء. وللذكر، يكفي للمرء إستخدامَ نظام غوغل أرث (Google Earth) حيث يرى لبنان من الأعلى فيلحظ أنّ لبنان الأخضر تحوّل إلى لبنان الرمادي!

يُقال إنّ العظماء هم الذين رسموا المستقبل بخططهم الناجحة. فهل سيذكر التاريخ أصحاب القرار في الشركات العقارية كعظماء رسموا مستقبل القطاع العقاري بما فيه المصلحة العامة أم أنّ الأنا ستغلب على قراراتهم؟

رابط الجمهورية

Print Friendly, PDF & Email