jassemajaka@gmail.com
نموذج سلامة يُعتمد في الإمارات
قامت دولة الإمارات العربية المُتحدة بإصدار قانون إتحادي جديد يحمل الرقم 14- 2018 والذي أعطى بموجبه إستقلالية مالية وإدارية للمصرف المركزي الإماراتي. هذا القانون يُشكّل نقلة نوعية في عمل المصرف المركزي الإماراتي ويعد بسياسة نقدية شبيهة بنموذج السياسة المُتبعة من قبل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.نصّت المادّة الثانية من القانون الإتحادي الإماراتي رقم 10 تاريخ 1980 على إنشاء المصرف المركزي الإماراتي. وجاء في هذه المادّة أن المصرف هو مؤسسة عامّة تتمتّع بشخصية إعتبارية وأهلية قانونية. واعتبرت المادّة الخامسة من القانون نفسه أن المصرف يقوم بتنظيم السياسة النقدية والإئتمانية والمصرفية وفقًا للخطّة العامّة للدولة. هذه العبارة الأخيرة، أخضعت السياسة النقدية للمصرف الإماراتي إلى قرار الحكومة الإتحادية وجعلت منه على نفس مستوى أي وزارة أو مؤسسة حكومية إماراتية أخرى.
القانون أعطى للمصرف المركزي مُهمّة رسم وتطبيق السياسات المصرفية والائتمانية والنقدية بما يكفل نمو الاقتصاد الإماراتي بشكل متزن ويبقى الأهمّ أنه أعطاه المُهمّة التي تُعتبر في صلب مهام المصارف المركزية في العالم، أي المُحافظة على سعر صرف ثابت للدرهم الإماراتي مقابل الدولار الأميركي مع ضمان حرية التحويل.
تُعتبر وصاية السلطة التنفيذية على المصرف المركزي عائق أساسي أمام المصرف المركزي للقيام بمهامه، وهذا الأمر ينطبق على كل الدوّل دون إستثناء. فقد شهدنا في تركيا كيف قامت الأسواق المالية بالردّ على القيود التي فرضها الرئيس أردوغان على المصرف المركزي من خلال القانون الذي أقرّ. كما رأينا كيف أثارت الإنتقادات القاسية التي وجّهها الرئيس دونالد ترامب إلى الإحتياطي الفيدرالي الأميركي، حفيظة الأسواق المالية تجاه الدولار الأميركي.
كل هذا للقول أنه لا يُمكن أن يكون هناك سياسة نقدية سليمة في ظل خضوع السلطة النقدية للسلطة السياسية. وهذا الأمر فهمته دولة الإمارات التي عمدت إلى إصدار قانون إتحادي جديد رقم 14 تاريخ 2018 والذي نصّت المادّة الثانية منه على إعتبار المصرف المركزي مؤسسة إتحادية عامّة ذات شخصية إعتبارية تتمتّع بإستقلال مالي وإداري. هذا الأمر يُعطي للمصرف المركزي الإماراتي كل ما يحتاجه لتطبيق السياسة النقدية التي يراها مُناسبة ضمن الأهداف التي حدّدها له القانون. بالطبع لم يكن هذا التعديل الوحيد في القانون، إلا أنه الأهم على الإطلاق. ومن بين التعديلات الأخرى رفع رأسمال المصرف المركزي إلى 5.5 مليارات د.أ مع إحتياطي يوازي 4 مرات رأس المال.
لإستقلالية المصرف المركزي فوائد كثيرة وعلى رأسها صدقية السياسة النقدية في الأسواق المالية خصوصًا في ما يتعلّق بمحاربة التضخّم حيث أثبتت البيانات التاريخية أن الدول التي تتمتع مصارفها المركزية بإستقلال نقدي تكون فيها مستويات التضخّم أقلّ مع عدم المسّ بالمتغيرات الإقتصادية الأخرى. ونتيجة لذلك بدأت موجة فصل السياسة النقدية عن السياسة المالية للحكومات منذ ستينات القرن الماضي وتوالت حتى طاولت مُعظم الدولّ التي تتمتّع بإقتصادات حرّة. وإذا كان بعض الإقتصاديين يعتقدون أن إستقلالية المصرف المركزي تحرم الحكومات من الليونة في توأمة السياسة المالية مع السياسة النقدية، إلا أن مُعظم قوانين المصارف المركزية تلحظ التعاون بين الحكومة والمصرف المركزي كما وقيام المصرف المركزي بدعم النمو الإقتصادي والتوظيف. أيضًا تُظهر البيانات التاريخية أن الدول التي تتمتع مصارفها المركزية بإستقلالية، لا تُسجّل عجزا ماليا في الموازنات العامّة كتلك التي لا تتمتّع مصارفها المركزية بإستقلالية (بالطبع لكل قاعدة إستثناءات).
يعتبر مصرف لبنان نموذج لعمل المصارف المركزية حيث أن أداء هذا المصرف دفع بالعديد من الدول والمُنظّمات الدولية إلى الإشادة بأداءه كما وتكريم حاكمه رياض سلامة. فسلامة إستخدم إستقلالية مصرف لبنان التي أعطاه له قانون النقد والتسليف إلى أبعد الحدود واضعًا الأهداف التي حدّدتها المادة 70 من هذا القانون فوق كل إعتبار: (1) المحافظة على سلامة النقد اللبناني، (2) المحافظة على الاستقرار الاقتصادي، و(3) المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي.
ونجح مصرف لبنان، خصوصًا مع إعتماده سياسة الثبات النقدي، بجعل الثقة بالقطاع المصرفي وبالليرة اللبنانية عالية إلى درجة تحوّل معها لبنان إلى مركز مالي من أهم المراكز المالية في العالم. ولعل هذا الأمر دفع العديد من الدول إلى نسخ تجربة مصرف لبنان والتي أثبتت فعّاليتها.
هذا الأمر يُمكن ملاحظته من خلال التعديلات التي أدخلها القانون الإتحادي الإماراتي رقم 14 تاريخ 2018 والذي منح المصرف المركزي العديد من الصلاحيات مثل إصدار النقد، تنظيم الأنشطة المالية، تحديد الممارسات الاحترازية، إدارة الاحتياطيات الأجنبية لتغطية القاعدة النقدية، مراقبة الوضع الائتماني للإمارات، المساهمة في تحقيق نمو الإقتصاد، حماية العملاء، حماية المعلومات المصرفية، وتحقيق شمول مالي واسع. وهذه الصلاحيات كلها يتمتّع بها مصرف لبنان من خلال القانون أو من خلال الممارسة التي قام بها عبر التعاميم التي يُصدرها.
إلا أن هذا التعديل يعني أن الثقل إنتقل إلى شخص الحاكم المركزي الذي مع مجلسه، مُلزم بوضع التوقّعات المناسبة للإقتصاد والمالية العامّة، لكي يتمكّن من إستباق الأمور عبر إجراءات نقدية. وتُظهر تجربة الإحتياطي الفديرالي أن شخص الحاكم يُعتبر عنصّر أساسي وحازم في بث الثقة في الأسواق (حالة آلان غرينسبان أفضل مثال على ذلك). كذلك الحال في لبنان حيث أن شخص الحاكم رياض سلامة له تأثير أساسي على ثقة الأسواق بالعملة والنظام المصرفي ويطرح السؤال عن مدى قدّرة سلفه على تأمين نفس الثقة للأسواق.
من هنا نرى أن الأنظار من الأن وصاعدًا ستتجّه على شخص الحاكم المركزي الإماراتي الذي يتوجّب عليه العمل على إكتساب ثقة الأسواق من خارج إطار ثقة الأسواق بالقدرة المالية لدولة الإمارات التي تتمتّع بملاءة عالية.