Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

الإقتصاد في صلب الأمن القومي

يُشكّل الأمن القومي الإطار العام الذي يرعى استراتيجيات الدول في تعاملها الخارجي وسياساتها الداخلية. وإذا كان هذا المفهوم غير معمول به في لبنان، إلّا أنّ تطبيقه في بعض الدول أصبح في مراحل متقدمة. والإضطرابات التي يعيشها لبنان منذ فترة، تفرض إعادة النظر في هذا المفهوم وتطبيقه على الصعيد المحلّي.     الأمن القومي هو مفهوم ينصّ على أنه على الحكومة، بالتعاون مع المجلس النيابي، أن تؤمّن حماية شعبها على الصعيد الأمني، الاقتصادي، الغذائي، الصحي، الطاقة… أي بمعنى آخر حماية المواطن من كل أنواع الأزمات الجهازية (systemic) التي قد تطاله.

هذا المفهوم الذي تمّ تطويره في الولايات المتحدة الأميركية بُعَيد الحرب العالمية الثانية، يقترح استخدام عناصر قوة (عسكرية، سياسية، ديبلوماسية، إقتصادية…) لمواجهة المخاطر على الأمن القومي والتقليل من تداعيات هذه المخاطر في حال حدوثها.

وبحسب المفهوم كما طوّره الأميركيون، فإنّ الخطر الذي قد يطال الأمن القومي قد يأتي من دولة خارجية، مجموعة (إرهابية)، شركات عالمية، جمعيات، الكوارث الطبيعية، والأحداث التي قد تمسّ الأمن القومي.

وكحلول لمواجهة الخطر على الأمن القومي، قامت الولايات المُتحدة الأميركية بتطوير عدد من الوسائل التي تسمح لها بالحفاظ على أمنها القومي (National Power Elements)، ومنها: الديبلوماسية، القوة الاقتصادية، القوة العسكرية، الإستخبارات، البرامج الدفاعية الإحتياطية المدنية، والبنية التحتية المَرنة.

ومزج هذه الوسائل مع بعضها البعض، جعل من الولايات المُتحدة الأميركية الدولة الأولى في العالم. على سبيل الذكر لا الحصر تُسخّر الولايات المُتحدة الأميركية قدرتها العسكرية للدفاع عن اقتصادها، كما أنّ هذا الأخير يسمح للولايات بخَوض معارك كبيرة في أقاصي المعمورة. أيضاً يُمكن ذكر تطوير الطرق المُستخدمة في الدبلوماسية، والتي أصبحت من أكثر الدبلوماسيات فعالية في العالم.

الأمن القومي اللبناني

في لبنان، يبقى مفهوم الأمن القومي محصوراً بشكل أساسي بالقوة العسكرية. وهذا الأمر يُمكن ملاحظته من غياب سياسات تطال الأمن الغذائي، الاقتصادي، الاجتماعي والطاقة. وحالة المشتقّات النفطية هي مثال ناطق للواقع اللبناني، ففي حين أنّ الاقتصاد اللبناني يعتمد بدرجة أساسية على هذه المشتقات (نقل، كهرباء، تدفئة، صناعة)، نرى أنّ لبنان لا يحوي على أيّ خزانات لتخزين استراتيجي يسمح له بالصمود ولَو لعدة أسابيع في حال نشوء أزمة.

ويكفي أن تتأخّر باخرة تحمل مشتقّات نفطية عن موعد وصولها إلى لبنان، لكي تعمّ الفوضى على محطات الوقود. وهذا ما يدلّ على طمع أصحاب هذه المحطات الذين يعرفون أنهم لن يستلموا كميات جديدة في حال تمّ بيع المخزون الموجود لديهم. لذا، يعمد هؤلاء إلى رفض البيع بأسعار السوق.

أيضاً يُمكن ذكر الأمن الاقتصادي، والذي يتمثّل بأبسط حاجات الإنسان، ألا وهي المياه. فمَن منّا لا يذكر ماذا حصل في صيف العام 2014 وخريفه حين جفّت المياه ولم يكن يوجد أيّ مخزون مياه في لبنان كما لا يوجد أيّ مراكز تحلية لمياه البحر. ونتذكر كيف أخذ المسؤولون على عاتقهم حلولاً ضخمة لا يُمكن تحقيقها في وقت الأزمة، مثل استيراد المياه من تركيا…

وماذا يُمكننا القول عن الأمن القومي الإجتماعي الذي يُمكن ملاحظة غيابه من خلال النزوح السوري الذي دكّ هياكل الكيان اللبناني من ناحية الأمن الجسدي، والغذاء، والعمل… وكيف لا نذكر أزمة النفايات التي يُمكن أن تؤدي إلى كارثة صحية في حال هَطلت الأمطار قبل جمع النفايات من الطرقات، والتي قد تكون الأسوأ منذ الحرب العالمية الأولى.

المخاطر المحدقة…

ممّا تقدّم وبتحليل بسيط من القارئ، يُمكن الإستنتاج أنّ لبنان يواجه مخاطر تُهَدد أمنه القومي. ومن أهم هذه المخاطر: تدهور الماكينة الاقتصادية، الإفلاس، التهديدات البيئية كالتلوث، الإرهاب، الجرائم، التغيير الديموغرافي، تفشّي الأمراض مثل الكوليرا، والإضطرابات الشعبية.

وإذا ما أردنا التركيز على الشق الاقتصادي، موضوع المقال، نرى أنّ على الدولة اللبنانية تحديد المخاطر التي تُهدد الماكينة الاقتصادية، المالية العامة، التهديدات البيئية، والصحة العامة. وبتصنيف العوامل التي تُشكل خطراً بحسب معدل الاختراق، نرى أنّ المشتقات النفطية تأتي بالدرجة الأولى من ناحية مدى اختراقها للاقتصاد اللبناني، خصوصاً أنّ النفط يُستخدم في إنتاج الكهرباء التي أصبح من شبه المُستحيل التخلّي عنها.

وهنا نرى أهمية بدء الدولة بمشاريع كبيرة وشاملة تسمح بتخفيف التعلّق بالنفط ومشتقاته وتوليد الكهرباء من مصادر طاقة متجددة كالشمس (مشروع نهر بيروت والذي من المتوقّع أن يُنتج 1 ميغاوات) والهواء والمياه. كما يتوجّب على الدولة اللبنانية الاهتمام أكثر باستخراج الثروة الغازية والنفطية القامعة في قعر البحر مقابل الشواطئ اللبنانية، والتي سمحت لإسرائيل بالحصول على استقلالها الحراري.

وبالحديث عن المياه، تُعتبر الإدارة السيئة للثروة المائية المُتساقطة الخطر الثاني الذي يُهدد أمن المجتمع اللبناني. فلبنان الغنيّ بالمتساقطات لا يمتلك أيّ مخزون مائي صالح للشرب ولا حتى سدوداً، حيث أنّ الإدارة الاقتصادية السيئة منعت بناء سدود مياه وذلك منذ طرحها للمرة الأولى في القرن الماضي من قبل موريس الجميّل. وحتى لا تُعاود أزمة المياه التي ضربت لبنان العام الماضي، من الواجب على الدولة اللبنانية العمل على إنشاء سدود لتجميع المتساقطات المائية، والتي تذهب بمعظمها الى البحر.

وبالانتقال إلى الماكينة الاقتصادية، نرى أنّ غياب الإستثمارات وما له من تأثير على هذه الماكينة، وبالتالي الإنتاج، يُشكل تهديداً واضحاً للمجتمع اللبناني إن على صعيد الحياة الكريمة أو على صعيد الراحة الاجتماعية.

من هذا المُنطلق، يتوجّب على الدولة اللبنانية العمل على كل ما هو مُستوجب لعودة الإستثمارات الأجنبية وزيادة الإستثمارات الداخلية. وهذا الأمر لا يقلّ أهمية عن سابقيه من ناحية التداعيات مع فارق بسيط في التواريخ.

ومن ثم تأتي المخاطر المالية التي تُهدد الدولة بالإفلاس، والناتجة عن الزيادة في الدين العام. هذا الأخير أصبح نموّه أعلى من نمو الاقتصاد، وبالتالي فإنّ الفارق يتحوّل تلقائياً إلى دين عام مثل معظم الإنفاق الذي تقوم به الدولة اللبنانية.

بالطبع يُمكن ذكر عدة مخاطر أخرى كالنزوح السوري الذي يضرب سوق العمل في لبنان، والفساد الذي يُعتبر مسؤولاً أساسياً في تراجع المستوى المعيشي للمواطن اللبناني…

واقع لا يُمكن تجاهله

كما سبق الذكر، إنّ مفهوم الأمن القومي اللبناني غير موجود فعلياً في القوانين المكتوبة، لكنّ الحاجة له هي أمر واقع. وبالتالي، لم يعد من المقبول التغاضي عن الأمر. كل سياسة على صعيد الحكومة يتوجّب أن تحمل في تفاصيلها هذه المخاطر وكيفية إعفاء لبنان من تداعياتها الكارثية. نعم هي كارثية لأنه، وكما يلاحظ القارئ، فإنّ التداعيات في كل مرة كبيرة واحتمالات تَحقّق هذه المخاطر كبيرة أيضاً. 

Print Friendly, PDF & Email