Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

عن “زياد”… ضحية شركات التوظيف الوهمية

لم يكن يعلم زياد عندما تخرّج من كلية الهندسة منذ أكثر من خمس سنوات، بأنه سيكون ضحية سهلة الافتراس في سوق العمل الوهمي، ولم يكن يعرف يوماً أن البطالة ستدفعه يوما الى أن يدفع المال مقابل الحصول على عمل، وأنه سيرضى بشروط صاحب شركة “C.S” المدعو “ج.ب” ومنها اقتطاع نصف معاشه، مقابل وظيفة محترمة في إحدى شركات الهندسة “المعروفة” التي ادّعى “ج. ب” بأنه يعمل كوسيط توظيف لديها… عاش زياد حلم التوظيف لايامٍ قليلة قبل أن يقفل صاحب شركة التوظيف تلك خطوط “هواتفه الأربعة”، ويقفل باب مكتبه، ويرحل الى مكان آخر يمارس فيه احتياله من جديد على شبابٍ أُقفلت بوجههم سبل التوظيف الكريم، لدرجة باتوا فيها يتعلقون بحبال الهواء الوهمية، وكما يقول المثل الشعبي “الغريق بيتعلّق بقشة” ولعلّه مثل يحاكي واقع الشباب اللبناني العاطل عن العمل حق المحاكاة، ويعبّر عنه أفصح التعبير.   لم تعد شركات التوظيف الوهمية التي ظهرت في سوق العمل مؤخراً تقتصر على بعض الدول العربية، ولم يعد لبنان بمنأى عن هذه الظاهرة التي تتخذ من الواقع الاقتصادي الهش جسراً لتجميع الاموال الطائلة بأوقاتٍ سريعة، ولا شك بأن سماسرة هذه الشركات وجدوا لأنفسهم بيئة صالحة لممارسة احتيالهم مستفيدين من مؤسسة وطنية للاستخدام “عاطلة عن العمل” ومن واقع اقتصادي مهترئ، ومن بطالةٍ تجاوزت الخطوط الحمر في صفوف الشباب اللبناني، ومن غياب الرقابة والمحاسبة في ظل دولةٍ عاجزة، حتى عن حلّ أزمة نفاياتها.

تفاصيل الحكاية يروي زياد لـ”البلد” تفاصيل حكايته مع إحدى شركات التوظيف الوهمية التي قرأ عنها في إحدى الصحف الالكترونية، عبر اعلان صغير يحمل اسم الشركة وارقام هواتف صاحبها، مرفقة بإعلان يجتذب القارئ لا سيما الباحث عن عمل، يقول “احصل على عمل في عشرة أيام فقط”. وسارع زياد، الذي جعلته البطالة يمتهن البحث في اعلانات التوظيف، للاتصال بصاحب الشركة المزعوم الذي سارع بدوره لدعوة زياد الى مكتبه الواقع في منطقة جسر الباشا، لتقديم الطلب. يتابع زياد سرد قصته المرفقة بخيبة أملٍ عارمة ما كان ينقصها الا “ضرب الاحتيال” ذلك لتكتمل معه مشهدية طموح اكبر من هذا البلد الصغير. ففي القسم الثاني من الرواية زار زياد المكتب “المؤلف من عدة مكاتب، وفريق عمل يقارب سبعة موظفين، عبأت طلب التوظيف، بشكل منظم ودفعت مبلغا قدره 50 دولارا في المكتب المخصص للصندوق، وفي تفاصيل طلب التوظيف تبين لي ان الشركة هي شركة تنظيفات وشركة توظيف بالوقت نفسه، وبعد دفع المبلغ طالبت صاحب الشركة بوصلٍ يثبت أنني دفعت له 50 دولارا، فقال لي بالحرف الواحد (نحن نتعامل على الثقة، وإن لم تتوظف بعد عشرة ايام من الآن يمكنك استرجاع المال الذي دفعته) إضافة الى انه تم الاتفاق على ان يحصل ج.ب على نصف راتبي في الشهر الاول من مزاولة وظيفتي في إحدى شركات الهندسة (المعروفة) في الحازمية، والذي يدعي ج.ب بأنه وسيط لها وشركات كبيرة أخرى في لبنان ويساعدهم في التوظيف”. وغادر زياد المكتب على أمل ان شركة الهندسة تلك ستتصل به بعد عشرة ايام، ومرت الايام العشرة وكأنها عشرة اشهر، انتظر يومين اضافيين بعد المهلة المتفق عليها وعاود الاتصال بشركة “C.S” الذي عاود صاحبها الكذب عليه مراراً وتكراراُ لفترة اسبوعين اضافيين، ومن بعدها أقفل “ج.ب” خطوط هواتفه الأربعة التي يعرفها زياد، لفترة تجاوزت الثلاثة ايام وعندها قصد زياد المكتب الذي تم إغلاقه كما أبلغه ناطور البناية.

أمل زائف لا يريد زياد أن يقدم دعوى بحق من سرق وقته وطموحه وأعطاه أملاً زائفاً، فلا قدرة له على أعباء الدعاوى وأتعاب المحامين، ربما عندما يجد عملاً “قد يفكر بذلك” ، بل يريد أن ينشر تجربته إعلامياً كي لا يقع غيره في الفخ الذي وقع فيه هو. وقامت “البلد” بزيارة البناء الذي يقع فيه مكتب شركة “C.S” وعبثاً حاولنا قرع الجرس، وما من مجيب، وتوجهنا بالسؤال لناطور البناية، الذي أكد لنا أن “ج.ب” قد ترك مكتبه منذ أكثر من شهر، بعد أن طالبه صاحب البناية بإيجار المكتب، وأخبرنا أنه ما زال حتى اليوم يأتي شبان وشابات ويسألون عن الشركة وصاحبها، ويقولون بأنه تم الاحتيال عليهم. فقصدنا صاحب البناية الاستاذ نبيل صليبي، الذي أطلعنا بدوره على عقد الايجار الذي لم يوقعه “ج.ب” بعد، وهو عقد إيجار باسم ابنتيه، وليس باسمه، إضافة إلى شيك بمبلغ 600 دولار، تبين لاحقاً أنه “من دون رصيد” ، ويوضح الصليبي في حديثه لـ”البلد” أن صاحب الشركة المزعومة، بقي في بنايته “لمدة شهرين اثنين ولم يدفع خلالهما الأيجار المستحق عليه، وكان يماطل في توقيع العقد، ويدّعي أنه دائما مشغول، وعندما ضيّقت عليه كي يدفع لي، ترك المكتب، ولديه ستة أرقام هواتف، كلها مغلقة اليوم”.

عوامل مناسبة وبهدف التعرف على هذه الشركات الوهمية أكثر، كان لنا حديث مع الخبير الاقتصادي، البروفيسور جاسم عجاقة، الذي أكد أن “واقع الاقتصاد اللبناني التعيس جدا جدا، وارتفاع نسبة البطالة مع زيادة عدد النازحين السوريين، حتى بلغت 35 بالمئة بين الشباب و47 بالمئة بين حاملي الشهادات، وتراجع المؤشرات الاقتصادية، وتراجع الاستهلاك منذ بداية السنة وحتى الآن بنسبة 14 بالمئة ، وإغلاق كثير من المؤسسات أبوابها بسبب الاوضاع الاقتصادية الصعبة… كلها عوامل تؤثر على المواطنين العاطلين عن العمل” الذين أصبحوا بين خيارات إما مرة وإما أمرّ، فـ”الواقع الاقتصادي المهترئ هو العامل الاول الذي يؤمن الظروف المؤاتية لنشوء هكذا شركات وأن يكون لهم زبائنهم الباحثين عن العمل”.

أنواع شركات الوهم والشركات هذه نوعان: “شركات تقوم بتشغيل المواطن من منزله كمندوب مبيعات عبر الهاتف، وعندما يذهب هذا المواطن الى مكاتبها لتقديم طلب التوظيف يدفع قدرا من المال مقابل فتح ملف له واعطائه الدليل الخاص بالشركة، ويجلس ذلك المواطن في منزله يعرض بضائع الشركة على الزبائن، وما من مشتر، وبالتالي ما من معاش وما من نسبة على المبيع لأنه لم يبع شيئاً ويكون بالتالي دفع مبلغا من المال مقابل وظيفة وهمية وإن وهمها كان يتمظهر بشكلٍ غير مباشر. والنوع الثاني من الشركات كالشركة التي وقع زياد بشباكها وهي تقوم بالاحتيال المحترف على المواطنين، مستفيدة من غياب الرقابة، وتجمع الثروات بأوقات قصيرة، مقابل المبالغ التي تتقاضاها مقابل كل طلب توظيف، وبعد فترة تقفل مكاتبها وتقفل خطوط هواتفها، وترحل إلى مكان آخر لتفتتح مكاتب جديدة وتستعمل ارقام هواتف جديدة، و”معظم هذه الشركات وهمية أي غير مسجلة بالسجل التجاري” بينما تقع مسؤولية الرقابة على هذه الانواع من الشركات على عاتق وزارة المالية، وزارة العمل، الضمان الاجتماعي، ووزارة الداخلية لتقوم بالملاحقة القانونية كون ما تمارسه هذه الشركات أعمال نصب واحتيال صريحة وبشكل مباشر”. وينصح عجاقة المواطن اللبناني بعدم الاقتراب من أي شركة تضع اعلاناً عن العمل من المنزل “لانها كلها وهمية”، ولا يلجأ الى اي شركة لتقديم طلب توظيف قبل التحقق عن الشركة وصاحبها وتاريخها، وطبيعة عملها، وقبل أن يتأكد بأن لها اسما حقيقيا في وزارة العمل”.

مناخ خصب لا شك أن “ج.ج.ب” من مواليد الـ1970 – بعبدات، عاود عمله في مكتبٍ جديد في مكان جديد، وبأرقام هواتف جديدة، وربما باسم شركة جديدة أيضاً. ولا شك بأن زياد ليس أول ضحية ولن يكون الأخيرة، طالما أن هذه الشركات وجدت لنفسها مناخا خصباً ومواطنين عاطلين عن العمل “بالجملة”، ورقابة مُغيّبة… في ظل دولةٍ أقل ما يمكن وصفها بأنها غائبة عن الوعي…! رابط البلد

Print Friendly, PDF & Email