Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

النظام المالي العالمي الأمثل لإقتصاد في تحوّل مُستمر

تواجه العديد من دول العالم مشاكل مالية سببها التراجع الاقتصادي الذي شهده العالم خصوصًا بُعيد الأزمة المالية العالمية. وإرتفع حجم الديون السيادية العالمية بنسب كبيرة في العديد من هذه الدول طارحة بذلك النظام المالي الأمثل لإقتصاد في تحوّلٍ مُستمرّ.

يُخبرنا التاريخ أن الأزمات المالية كانت في مُعظم الحالات مُقدمة للأزمات الإقتصادية، وما الأزمة المالية العالمية في العام ٢٠٠٨ إلا أكبر برهان على هذا الواقع. فالأعوام التي تلت الأزمة أبرزت ركود إقتصادي في العديد من البلدان وعلى رأسها الدول المُتطورة لتتحول هذه الأزمة من جديد إلى أزمة ديون سيادية خصوصًا في البلدان الأوروبية التي لم تتعافى حتى الساعة. الإصلاحات في النظام المالي العالمي أصبحت اليوم إلزامية من ناحية مسؤولية هذا النظام عن نقل الأزمات الإقتصادية إلى الإقتصادات الأخرى. لكن المُلفت للنظر أنه في ظل هذا الواقع التعيس، نرى أن هناك تعاظم غير مسبوق للإحتياطات العالمية من العملات الأجنبية، الذهب والصناديق السيادية والتي تخلق حركة تنقل لرؤوس الأموال مما يخلق تغييرات في أسعار صرف العملات في الأسواق المالية تُسبب ضررًا على العديد من العملات وبالتالي على إقتصادات الدول. بعض الدول إلتجأت إلى خلق صناديق سيادية بهدف خلق مداخيل ريعية لا تتعلق بالوضع الإقتصادي للدولة على مثال الصين التي تمتلك ٤ صناديق سيادية بقيمة ١٤٤١ مليار دولار أميركي (SAFE Investment Company بقيمة ٥٦٨ مليار دولار، China Investment Corporation بقيمة ٤٤٠ مليار دولار، Hong Kong Monetary Authority Investment Portfolio بقيمة ٢٩٣ مليار دولار، National Social Security Fund بقيمة ١٣٥ مليار دولار، و China-Africa Development Fund بقيمة ٥ مليار دولار أميركي). وتأتي في المرتبة الثانية الإمارات مع ٥ صناديق بقيمة ٨٠٤ مليار دولار أميركي مع شبه سيطرة لإمارة أبو ظبي التي تمتلك ثلاثة صناديق بقيمة ٦٢٧، ٥٨، و٤٨ مليار دولار أميركي. وتأتي النروج في المرتبة الثالثة مع صندوق سيادي بقيمة ٦١١ مليار دولار أميركي تليها السعودية مع ٥٣٣ مليار دولار أميركي، سنغافورة مع ٤٠٥ مليار دولار…

أما في ما يخصّ إحتياطات الذهب فتأتي الولايات المُتحدّة الأميركية في المرتبة الأولى مع ٨١٣٤ طنّ تليها ألمانيا مع ٣٣٩٦ طنّ، إيطاليا مع ٢٤٥٢ طنّ، فرنسا مع ٢٤٣٥ طنّ، الصين مع ١٠٥٤ طنّ… ويحتل لبنان المرتبة ١٧ مع ٢٨٧ طنّ. والمُلفت في الأمر أن الولايات المُتحدة الأميركية تستقبل أكثر من ثلاثة أرباع الذهب في العالم حيث تُستخدم كمخزن للذهب في العالم نتيجة المنشأت التي يتم فيها التخزين والتي تُضاهي بأمانها أكثر المُنشأت العسكرية السرية في العالم.

النظام المالي العالمي اليوم هو نظام هجين مع تحيّز كبير نحو الإقتصادات التي تتمتع بسعر صرف حرّ والإقتصادات التي ترتبط عملاتها بالدولار الأميركي. وتحتفظ الولايات المُتحدة الأميركية بحصة الأسد نتيجة أسواقها المالية الهائلة وماكينتها الاقتصادية العملاقة. ويُمكن القول على الرغم مما سبق أن النظام المالي يذهب بإتجاه تعدد الأقطاب بعد ما كان الدولار الأميركي مُسيطرًا ويبرز بين هذه الأقطاب ثلاثة عملات رئيسية هي الدولار الأميركي، اليورو واليوان الصيني والتي هي نتاج حجم الماكينة الاقتصادية لهذه المناطق. هذه التعددية ستسمح بدون أدنى شكّ بمحو بعض العيوب التي تنتج عن أحادية الدولار الأميركي في النظام المالي العالمي. ومن بين هذه العيوب يُمكن ذكر صلابة سعر صرف بعض العملات الرئيسية، وعدم التوازن بميزان المدفوعات. في المقابل عناك بعض التداعيات السلبية لهذه القطبية المُتعددة مثل زيادة التغيرات في العملات (Volatility) أو خطر حرب العملات بين الدول. ويبقى القول أن هناك عدد من المشاكل التي لن تجد حلولاً في هذا النظام المُتعدد الأقطاب مثل مشكلة السيولة العالمية. فهذه المُشكلة تبقى بدون شكّ رهينة صلابة سعر صرف العملات ودرجة التعاون بين الدول لتفادي حرب العملات. من هذا المُنطلق نرى أنه من واجب المُجتمع الدولي النظر في شروط هذا النظام الجديد الذي سيفرض نفسه بحكم واقع الإقتصادات للدول. وبالتالي فإن مجموعة العشرين ستتحول إلزاميًا إلى مُنسّق أساسي لهذا النظام عبر التجانس في التعاملات التجارية والمالية بين الدولار الأميركي من جهة واليورو واليوان من جهة أخرى. وهذا الأمر لا يُمكن أن يتمّ إلا من خلال صندوق النقد الدولي الذي يمتلك الخبرة، القدرة والتوكيل لهذه المُهمّة. ومن أهم ما يُمكن القيام به، هو وضع قوانين لتدخل الدول في أسواق العملات كما ووضع آلية لمساعدة الدول في أوقات الأزمات المالية (كلنا نتذكّر دعم البنك المركزي الأوروبي لنظيره البريطاني عقب التصويت على خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي). أيضًا يتوجب على المصارف المركزية أن تزيد من تعاونها بهدف تأمين السيولة العالمية.

من جهة أخرى وبالنظر إلى الوزن الإقتصادي ونقطة الثقل في العالم، نرى أن الولايات المُتحدّة الأميركية اليت كانت ولعقود هي الثقل الأساسي مع إقتصاد يوازي ثلث الاقتصاد العالمي، بدأت تفقد من هذا الوزن (كنسبة مئوية من مجمل الاقتصاد العالمي) لصالح الصين والهند. وهذا يعني أن نقطة الثقل بدأت تتجه نحو الشرق إذا من المُتوقع أن تتفوق الصين إقتصاديًا على الولايات المُتحدة الأميركية في العقد القادم (بفرضية عدم وجود ثورة تكنولوجية جديدة في الولايات المُتحدة الأميركية). أما الهند ومع نسب النمو التي يُسجّلها الاقتصاد الهندي، من المُتوقع أن تتفوق على الاقتصاد الأميركي في مُنتصف هذا القرن. وهذا يعني أن النظام المالي العالمي الحالي لن يبقى على حاله نظرًا لحجم الإقتصادين الصيني والهندي ونظرًا لما ينتج عن ذلك من تنقل لرؤوس الأموال لهذه البلدان وبالتالي الوزن السوقي لعملات هذين البلدين. يبقى القول أن حجم السوق الإستهلاكي ونوعيته تُشكّل عاملًا مُهمًا في تحديد الوزن الإقتصادي للمناطق على مثال منطقة اليورو التي ستحتفظ بدون شكّ بوزنها الاقتصادي مع إنحدار بسيط ناتج عن بروز الثنائي الأسيوي. في الختام، الدول الكبرى تواجه أزمة حجمها الإقتصادي المُتزايد وتعمل على إيجاد حلول لتأهيل النظام المالي العالمي الحالي بهدف تفادي الأزمات. أما في لبنان، فتواجه الطبقة السياسية أزمة تقلص الإقتصاد اللبناني، لكن للأسف لا تملك هذه الطبقة الحلول.

Print Friendly, PDF & Email