Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

القروض إلى القطاع الخاص مُحرِّك أساس للإقتصاد اللبناني

يُمعن البعض بإطلاق صواريخ إعلامية على مصرف لبنان وعلى القطاع المصرفي وعلى شخص الحاكم رياض سلامة بهدف التنديد بالسياسة التسليفية التي يتّبعها القطاع المصرفي مع القطاع الخاص. وإذا كانت الأرقام التي أوردها هذا البعض صحيحة، إلّا أنّ التحليل الذي يُرافقها، لا يتوافق والنظرية الإقتصادية.  

النظرية الإقتصادية ترى الاقتصاد كإنسان يمشي على رجلين: الأولى هي الإستثمار والثانية هي الإستهلاك. وغياب واحدة من هاتين الرجلين أو ضعفها، يُضعف الاقتصاد كما يحصل حالياً مع الاقتصاد اللبناني الذي يشكو من ضعف الإستثمارات وبالتالي لا ينمو. الإستثمارات تراجعت نتيجة الحظر الخليجي الذي أتى كردّة فعل على الخيارات السياسية اللبنانية منذ العام ٢٠١١ حتى تاريخه. هذا الحظر خفّض الإستثمارات في لبنان من أكثر من ٤.٤ مليار دولار أميركي في العام ٢٠١٠، إلى ٢.٣ مليار د.أ في العام ٢٠١٥. وإذا كان من المُتوقّع أن تتراجع الإستثمارات في العام ٢٠١٦ إلى حدود الـ ٢ مليار دولار أميركي، إلّا أنّ إنتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية وتكليف الرئيس سعد الحريري مهام تشكيل الحكومة سيُغيّران من دون أدنى شكّ هذا الواقع. من جهته حافظ الإستهلاك على زخمه ونموّه مدفوعاً بعاملين أساسيَّين: الأول تحاويل المُغتربين، والثاني القروض المصرفية إلى القطاع الخاص. وهذا الأمر ليس بالأمر الطبيعي، لأنّ النظرية الإقتصادية تنصّ على أن يتمّ تمويل الأساس من الإستهلاك من النشاط الاقتصادي الناتج عن عمل الماكينة الإقتصادية- أي من أجور الوظائف في القطاع الخاص بالدرجة الأولى. للأسف ضعف الإستثمارات في القطاع الخاص هو السبب في تآكل الماكينة الإقتصادية، كما أنّ النزوح السوري ضرب سوق العمل للطبقة الفقيرة وقسماً من الطبقة المُتوسطة. وبالتالي، فإنّ تغذية الإستهلاك من النشاط الاقتصادي غير مُمكن في ظلّ هذه الظروف. على صعيدٍ متوازٍ زادت الدولة اللبنانية من إستهلاكها للقروض المصرفية عبر إصدار سندات خزينة بوتيرة مُرتفعة. لكنّ المُشكلة أن هذا الإستهلاك المُفرط لرؤوس الأموال من قبل الدولة اللبنانية يحرم القطاع الخاص من الأموال بهدف الإستثمار. إستشعر حاكم مصرف لبنان الإرتفاع الكبير في حجم القروض المصرفية الإستهلاكية للقطاع الخاص. وبالتالي قام بإصدار التعميم ٣٦٩ الذي إنتقده عليه في ذلك الوقت مَن ينتقد سياسته النقدية اليوم. هذا التعميم الذي صدر في آب ٢٠١٤، فرض على المُقترض أن يمتلك من النقد ما يوازي ٢٥٪ من قيمة المُشتريات. إلّا أنّ هدف التعميم بلجم القروض للقطاع الخاص، لم يتحقق بالنسبة المرجوّة. وهذا ما دفع مجلس إدارة جمعية المصارف إلى رفع الفوائد على القروض الإستهلاكية في شباط ٢٠١٥. وبالتالي إنخفض نموّ القروض إلى القطاع الخاص من ٨٪ في العام ٢٠١٤ إلى ٦.٥٪ في العام ٢٠١٥. لكن وعلى الرغم من هذه الإجراءات إستمرّت القروض للقطاع الخاص بالإرتفاع ولو بوتيرة أقلّ. المُشكلة أنّ مصرف لبنان هو أمام معضلة حيث إنّ التشدّد في منح القروض عبر تعاميم يعني القضاء على الإستهلاك وبالتالي القضاء على الاقتصاد اللبناني، من جهة أخرى التراخي في منح القروض يدفع إلى مديونية عالية قد تؤثر سلباً على القطاع المصرفي. وهذا الأمر لا يُمكن لمُنظّر أن يحكم فيه من دون معطيات لا تملكها إلّا السلطات النقدية، وبالتالي يجب الوثوق بحاكم مصرف لبنان وسياسته النقدية. النظرية الإقتصادية تفصل بين السياسة المالية التي هي من مهام الحكومة والسياسة النقدية التي هي من مهام مصرف لبنان. وإذا كان العديد من الأشخاص لا يرون الجدوى من هذا الفصل بين السياستين، إلّا أنّ معرفة أنّ هذا الفصل هو أساس النظام الرأسمالي الحرّ، كفيلٌ بشرح أهميّته. الإستثمار والإستهلاك هما من شأن السياسة المالية للحكومة اللبنانية، لكن عن أيّ سياسة نتحدّث؟ في الواقع لا توجد حالياً أيّ سياسات مالية للدولة اللبنانية والإقتصاد متروك لرحمة الله وهمّة اللبناني (أكان مُستثمراً أو مُستهلكاً). نعم يُمكننا القول إنّ مصرف لبنان تخطّى حدود السياسة النقدية من خلال دعمه الإستهلاك وبشق قليل الإستثمار (القروض المدعومة من مصرف لبنان)، لكنّ هذا الدعم منع إنهيار الاقتصاد ومنع، قبل كلّ شيء، إنهيار القطاع المصرفي. هل يعلم القارئ الكريم أنّ تعرّض المصارف لقروض القطاع العقاري هو بحدود الـ ٢٠٪ وأنّ أيّ تباطؤ في الاقتصاد قد يؤدّي إلى فقاعة عقارية قد تودي بالنظام المصرفي؟ لقد كنّا من السباقين بإنتقاد سياسة المصارف التجارية في ما يخصّ القروض والتي تهتم بالشق الإستهلاكي وليس بالشق الإستثماري. وبإعتقادنا، تبقى مهمة المصارف الأساسية تمويل الاقتصاد بشقّيه الإستثماري والإستهلاكي، وبالتالي فإنّ الإنتقاد الوحيد الذي يُمكن توجيهه للمصارف اللبنانية هو عدم تمويلها للإستثمارات وذلك من خلال التشدّد بإعطاء القروض للشركات والأفراد الذين ينوون القيام بمشاريع إستثمارية. من هذا المُنطلق، نرى أنّ تدخل مصرف لبنان لإجبار المصارف على إعطاء القطاع الخاص قروضاً إستثمارية يُعتبر تدخّلاً في السوق الحرّ وبالتالي غير جائز. يبقى الحلّ الذي ينصّ على خلق تحفيزات لدفع المصارف على القيام بهذه الخطوة، لكنّ المُشكلة أنّ شهيّة الدولة للأموال تخلق شهيّة أكبر لدى المصارف التي ترى أنّ الإستثمار في سندات الخزينة هو أمر مُربح أكثر. من هذا المُنطلق، نرى أنّ كسر هذه الحلقة المُفرغة لا يتمّ إلّا عبر لجم العجز في الموازنة وبالتالي الدين العام ما يعني تخفيف الطلب العام على الأموال الخاصة. إنّ الآمال تبقى معقودة على الحكومة الجديدة لكي تُعيد للماكينة الإقتصادية رونقها وزخمها عبر تفعيل الإستثمارات الأجنبية المباشرة والداخلية من خلال إقرار قانون الشراكة بين القطاع الخاص والعام، وعبر حماية سوق العمل اللبناني من اليد العاملة الأجنبية التي تُنافس اليد العاملة اللبنانية. هذه الأخيرة بعملها تستطيع تمويل إستهلاكها، أما اليد العاملة الأجنبية فإنّ مُعظم ما تجنيه يذهب إلى الخارج. وفي الختام نُذكّر العهد الجديد بأنّ هناك إستحقاقات للدين العام في العام ٢٠١٧ بقيمة ٧.٩ مليارات دولار أميركي. هذه الإستحقاقات تُشكّل تحدّياً كبير للعهد الجديد وحده مصرف لبنان قادر على إنقاذ الدولة منه. وبالتالي نتمنّى على رئيس الجمهورية العماد ميشال عون المُحافظة على مصرف لبنان عبر تحييده عن التجاذبات السياسية التي قد تضرب مصداقية النظام المصرفي اللبناني وبالتالي تعني هلاك الإقتصاد. رابط الجمهورية 

Print Friendly, PDF & Email