Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

المرض الهولندي يُهدّد الملف النفطي اللبناني

إن الإستفادة من الثروة لا تُقاس بمجرد حيازة الثروة أو في الإنفاق السخي، بل بطريقة إستخدامه

“إن الإستفادة من الثروة لا تُقاس بمجرد حيازة الثروة أو في الإنفاق السخي، بل بطريقة إستخدامها”. هذا القول يعود إلى الكاتب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس الذي كان يصف إدارة إسبانيا للثروات الطبيعية في أميركا اللاتينية. هذا القول ينطبق على لبنان، وإليكم ما سيحدث إذا ما تمّ إستخراج النفط والغاز دون إجراء إصلاحات إقتصادية.

Print Friendly, PDF & Email

جريدة البلد | بروفسور جاسم عجاقة

يعرف الإقتصاديون جيدًا معنى عبارة “المرض الهولندي” والتي أتت لتُعبّر عن الظاهرة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية التي ضربت هولندا في ستينات القرن الماضي حيث إرتفعت المداخيل النفطية بشكل كبير مما دفع بالصادرات النفطية إلى الإرتفاع ومعها العملة الهولندية. هذا الإرتفاع في العملة ضرب الصادرات التقليدية بسبب فقدانها للقدرة التنافسية وبالتالي تمّ القضاء على القطاعات الصناعية الأخرى.

وبحسب نظرة المذهب النيو-تجاري (néo-mercantiliste)، لا يُمكن للموارد الطبيعية أن تؤدّي إلى ضرب الصناعات الأخرى. هذه النظرة تسمح لنا بالإستنتاج أن البلدان التي لا تمتلك موارد طبيعية تجد نفسها عاجزة عن الإنماء. لكن حال اليابان وكوريا الجنوبية هي أكثر الأمثلة تعبيرًا عن عدم صوايبة النظرة النيو-تجارية للموارد الطبيعية.

الآليات الإقتصادية لظاهرة المرض الهولندي

إن آلية تفقير بلد من خلال ثروته النفطية أو الغازية هي آلية معروفة في الاقتصاد (المرض الهولندي) وتتمّ من خلال أربعة مراحل:

  • (١) – الصناعة البترولية تستخدم قسم قليل من العمّال نسبة إلى مكانتها في الناتج المحلّي الإجمالي وذلك بحكم الطبيعة الرأسمالية لهذه الصناعة. وكنتيجة تأخذ الأجور العالية التي يقبضها العمّال في هذا القطاع مجراها في القطاعات الأخرى مما يعني أن الصناعات الأخرى تبدأ بفقدان التنافسية المنشودة.
  • (٢) – في نفس الوقت، الصادرات البترولية تُؤدّي إلى رفع سعر صرف العملة الوطنية وبالتحديد سعر الصرف الحقيقي إمّا من خلال رفع الأسعار داخليًا إذا كان سعر الصرف ثابتًا (حال لبنان) أو من خلال ارتفاع السعر الأسمي إذا ما كان سعر الصرف حرّ. وفي كلا الحالتين فإن الصادرات الصناعية الأخرى تتأذى نتيجة ارتفاع العملة وهذا ما يُعرف بالإقتصاد بـ “ظاهرة الإنفاق”.
  • (٣) – تتجه الموارد المالية والبشرية إلى الإنتاج الداخلي وذلك لسدّ حاجة الطلب الداخلي وإلى زيادة الصادرات البترولية. وهذا ما يُسمّى بـ “ظاهرة حركة الموارد”.
  • (٤) – إن المداخيل العالية للدولة نتيجة الصادرات البترولية تجعل منها رهينة أسعار النفط وبالتالي ليس من السهل وضع موازانات لا تحتوي على عجز.

النتيجة لهذا الواقع واضحة وهي تشوه في هيكلية الاقتصاد الوطني لصالح الصناعة النفطية على حساب الصناعات الأخرى. هذه الأخيرة بالطبع ستسعى بكل قواها إلى الحصول على حماية من قبل الدولة. لكن هذه النتيجة السلبية ليست الوحيدة، فالتنويع في الماكينة الإنتاجية لن يستمرّ، كما أن توزيع عوامل الإنتاج يُصبح مُكلفًا وبالتالي فإن الاقتصاد ككل يصبح رهينة القطاع النفطي الذي هو بحدّ ذاته رهينة الأسعار! وبمعنى أخر فإن الدوّلة تُصبح عاجزة عن القيام بمشاريع أو دعم القطاعات الصناعية الأخرى عندما تنخفض الأسعار.

اللعنة السياسية

التداعيات الإقتصادية للأسف ليس المُشكلة الوحيدة التي قد تضرب لبنان، فهناك مُشكلة هيكلية وسياسية ستظهر عند البدء بإستخراج النفط والغاز. ففي البلدان التي لا تحوي على مؤسسات صلبة تعمل ضمن الحوكمة الرشيدة، يؤدّي إستخراج النفط والغاز إلى زيادة عدم المسؤولية المالية من ناحية الإنفاق العام وإلى زيادة الزبائنية وتأخير الإصلاحات الهيكلية. المعروف أن الملك ميداس في الميثولوجيا الإغريقية كان عنده القدرة على تحويل أي شيء يلمسه إلى ذهب.

هذا الأمر قد يحصل عكسه بحسب الباحث فيكتور نعيم الذي تحدّث عن ظاهرة “عكس ميداس” (Anti-Midas) حيث يقول إن العديد من الإدارات في دول العالم الثالث ستُحوّل الذهب الأسود إلى ثروة لا قيمة لها. وهذا ما أظهره خلال دراسته للبترول في فنيزويلا حيث أن الناتج المحلّي الإجمالي في فينزويلا تراجع من سبعينات القرن الماضي حتى العام ٢٠٠٥ على الرغم من مداخيل بقيمة ٢٠ مليار دولار أميركي سنويًا (فنيزويلا تحوي اليوم على أكبر نسبة فقر في تاريخيها). وهذا يعني أن هذه الأموال لم تُستخدمّ كما يجب ولم تهتم الدولة بالعدالة الاجتماعية في هذا البلد. أيضًا من التدعيات السلبية غياب رقابة المواطن على الدولة بحكم أن هذه الأخيرة وبتخفيفها الضرائب على المواطن، يظنّ هذا الأخير أن الأمور تسير في الإتجاه الصحيح وبالتالي يُصبح المواطن أقلّ إكتراثًا بالإستعمال السيء للمال العام (Paul Collier).

اللعنة الإجتماعية

وعلى الصعيد الإجتماعي، فإن توزيع مداخيل النفط على كافة طبقات المُجتمع (من خلال العمل أو الإستثمار) تواجه مُشكلة حصرية العمل أو الإستثمار في هذا القطاع من قبل أقليّة وبالتالي لا يوجد أي توزيع عادل لهذه الثروة كلٌ حسب عمله. وهذا الأمر يؤدّي بدون شكّ إلى إضطرابات إجتماعية كما هي الحال في فينزويلا أو بعض الدول العربية. وبالتالي لا تستفيد كل طبقات المُجتمع من هذه الثروة لأن السياسة الإنمائية غير موجودة.

الجدير بالذكر أن الإنسان يميل إلى الإستهلاك وبالتالي فإن النظرية الإقتصادية قائمة بحدّ ذاتها على هذه الفرضية التي تمّ تفسيرها في علم النفس على أنها نتاج خوف الإنسان من ساعة الموت التي يجهلها وبالتالي يتمّ الإستفادة من ملذات الحياة بواسطة الإستهلاك. وعلى هذا الصعيد، ينص قانون هوتلينغ على أن المدخول النفطي يجب ألا يُستهلك بل أن يتمّ إستثماره بالكامل لكي يكون النمو مُستدام.

عدم القدرة على القيام بإصلاحات

من إحدى أهم النتائج السلبية لإستخراج النفط والغاز هو فقدان القرار من يدّ الدوّلة لصالح الشركات الخاصة. ويعود السبب إلى أن الشركات النفطية تتمتّع بإستقلالية عالية (على الرغم من العقود) عن صاحب القرار – أي الدولة. وهذه الإستقلالية تأتي من الخبرة العالية والإستثمارات التي تقوم بها وبالتالي فإن لهذه الشركات القدرة على تخبئة المعلومات. وما يزيد من قدرتها أنها ما تدفعه للدولة يُشكّل الأساس من مداخيل هذه الأخيرة وبالتالي يُصبح هناك “دولة داخل الدولة” تفرض قراراتها على الدولة وتمنّع أي إصلاحات لها علاقة بالإستغلال الأمثل للموارد الطبيعية.

هروب مداخيل البترول

على صعيد أخر هناك مُشكلة هروب مداخيل البترول التي تمنع الشعب من الإستفادة منها (عبر التنمية) وذلك بوجود أصحاب نفوذ يستملكون هذه المداخيل (Houphouët-Boigny) على مثال النفط الفينزويلي الذي إستفادت منه ميامي أكثر من فينزويلا… كذلك الحال بالنسبة للعديد من الدول.

أهمية الإصلاحات قبل إستخراج البترول

كل ما سبق هو وصف لما قد يحصل في لبنان في حال لم يقم بإصلاحات إقتصادية وإدارية قبل البدء بإستخراج النفط والغاز. مما لا شك فيه أن دولة القانون هي الشكل الإداري الوحيد القادر على جعل الثروة النفطية فرصة للمواطن. فالشفافية في ملف النفط تجعلّ منه شأنًا عامًا وبالتالي فإن الشعب الذي يمتلك المعلومات عن هذا الملف يُصبح مفتاح نجاح إستخراج البترول.

هذا الأمر يفرض وجود مؤسسات فعّالة تحترم حق ملكية الشعب. وبالتالي من الصعب تخيّل لبنان يدخل نادي الدولة المُنتجة للبترول بمؤسساته الحالية التي هي بأمسّ الحاجة إلى إصلاحات على جميع الأصعدة بدءًا من هيكلية الإدارة إلى عمل الموظفين مرورًا بإصلاحات إقتصادية تسمح بإستغلال مداخيل النفط في التنمية على أن يُعتمد قانون هوتلينغ والذي ينصّ على أن المدخول النفطي يجب ألا يُستهلك بل أن يتمّ إستثماره بالكامل لكي يكون النمو مُستدام.

Print Friendly, PDF & Email