Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

معضلة الموازنة.. هل من حلّ؟

بحسب المعلومات الصحافية، سيشهد مُنتصف شهر تمّوز المُقبل جلسة تشريعية تكون فيها سلسلة الرتب والرواتب على رأس جدول أعمال مجلس النواب، كما أن مشروع موازنة العام 2017 سيكون أحد بنود الجلسة. فكيّف سيتمّ حلّ معضلة تمويل الإنفاق؟ 

أصبح من شبه الأكيد أن شهر تمّوز القادم سيشهد مناقشة مجلس النواب لملفي سلسلة الرتب والرواتب والموازنة. وإذا كانت النية السياسية بإقرار هذين الملفين واضحة، إلا أن مشاكل تقنية تطرح وسيلة تمويل الإنفاق الناتج عن سلسلة الرتب والرواتب كما والإنفاق المُدرج في مشروع موازنة العام 2017؟ الموازنة العامة بحسب الدستور هي قانون يحوي كل الإنفاق والمداخيل للدوّلة اللبنانية خلال العام المالي (تُقرّ الموازنة للعام المالي القادم). وهنا تظهر أولى المشاكل التقنية والتي تأتي من فصل سلسلة الرتب والرواتب عن مشروع موازنة العام 2017، حيث أنه من المنطقي إدراج السلسلة داخل مشروع الموازنة لكي تمتلك الدولة اللبنانية نظرة شاملة على كل إنفاقها ومداخيلها. وقد يقول البعض أن هذا الأمر لا يُشكّل عقبة بحكم أن عددًا من القوانين المُتعلّقة بسلسلة الرتب والرواتب التابعة لبعض الأسلاك تمّ إقرارها بقانون مُنفصل عن الموازنة وهذا حقّ. إلا أن الواقع هو أن إقرار هذه القوانين تمّ في ظلّ غياب تام للموازنات منذ العام 2004! أيضًا لا يحتوي مشروع موازنة العام 2017 على كل إنفاق الدوّلة اللبنانية على مثال الخطّة الإنقاذية لقطاع الكهرباء والتي إن إخذت مجراها الطبيعي، ستفرض إقرار قانون إضافي يسمح بتأمين إعتمادات من خارج الموازنة لها. وهذا الأمر هو أمر سيء بالمطلق إذ أن 12 عاماً من الإنفاق على أساس القاعدة الإثني عشرية والإعتمادات من خارج الموازنة أدّت إلى عجز تراكمي بقيمة 40.7 مليار دولار أميركي (من دون الفوائد)! والإنفاق الناتج من الخطّة الإنقاذية لقطاع الكهرباء وغير مذكور في مشروع الموازنة ليس بالوحيد، فهناك سلّة من المشاريع الإقتصادية والإنمائية تمّ التوافق عليها في لقاء بعبدا التشاوري. وبإعتبار أن الحكومة إستطاعت إنجاز إقتراح هذه المشاريع في الأسبوعين المُقبلين – أي قبل منتصف شهر تمّوز موعد الجلسة التشريعية – تبقى العصوبة في دمج هذه المشاريع في مشروع موازنة العام 2017 وبالتالي يظهر إلى العلن أن مشروع الموازنة فقد نظرته الشمولية للإقتصاد اللبناني ككل. كل هذا سيؤدّي حتماً إلى زيادة الإنفاق من دون أن يكون هناك تمويل لهذه المشاريع. لكن المُشكلة الأكبر في مشروع موازنة العام 2017 تبقى في حجم العجز الذي سينتجُ من إقرار سلسلة الرتب والرواتب، الخطّة الإنقاذية لقطاع الكهرباء، المشاريع الإقتصادية والإنمائية، والإنفاق العام بالمطلق. فمشروع موازنة العام 2017 الذي أقرّته الحكومة اللبنانية يحوي على عجز بحدود 4.8 مليارات دولار أميركي من دون سلسلة الرتب والرواتب، الخطّة الإنقاذية لقطاع الكهرباء، والمشاريع الإقتصادية والإنمائية. وبالتالي فإن إقرار هذه الملفات سيزيد حكماً قيمة العجز العام! ويبقى السؤال عن كيفية تمويل هذا الإنفاق الإضافي الذي تتراوح قيمته بحدود الثلاثة مليارات دولار أميركي؟الخيارات أمام الحكومة محدودة وتتمثّل بـ: -1- إقرار سلّة ضريبية تترافق وسلسلة الرتب والرواتب (2400 مليار ليرة لبنانية أو 1.6 مليار دولار أميركي كحدّ أقصى)، إضافة إلى رفع رسوم الكهرباء تترافق والخطّة الإنقاذية لقطاع الكهرباء (500 مليون دولار أميركي كحدّ أقصى). لكن هذا الأمر سيخلق أزمة للطبقة السياسية مع القاعدة الشعبية بحكم أن الشارع لن يتقبّل ضرائب ورسوما سنوية بقيمة تفوق الملياري دولار أميركي سنوياً بحجّة إقرار سلسلة رتب ورواتب بقيمة 800 مليون دولار أميركي، وخطّة كهرباء عمادها البواخر بقيمة مليار دولار أميركي ستؤمّن الكهرباء 22 ساعة (بحسب وزارة الطاقة). وبالتالي فإن السلطة السياسية القادمة على إنتخابات نيابية ليست مُستعدّة لقبول المخاطر الناتجة من هذا الأمر خصوصاً أن إقرار الموازنة في شهر تمّوز لن يؤمّن الإيرادات المنصوص عليها في مشروع الموازنة بحكم أن هذه الموازنة سيتمّ تطبيقها على نصف السنة فقط. -2- إقرار قسم من الضرائب والرسوم (بتقديرنا بحدود المليار دولار أميركي) وترك الإنفاق الباقي ليتحوّل إلى عجز في الموازنة على أساس أن إنفاق هذا العام على المشاريع الإقتصادية والإنمائية كما والعائدات من إقرار سلسلة الرتب والرواتب (إستهلاك) وتطبيق الخطّة الإنقاذية لقطاع الكهرباء (تخفيض الكلفة على المواطن والإقتصاد) ستسمحّ بخلق نموّ إضافي في العام المُقبل يُمكنه إمتصاص قسم من العجز. المُشكلة هي أن هذا المبدأ “الكينيزي” كان لينجح لو أن الماكينة الإقتصادية غير مُتآكلة وموجودة في قعر الدورة الإقتصادية. إلاّ أن حال الماكينة الإقتصادية هو في حال تآكلية لا يُمكنها تأمين حاجة الزيادة في الإستهلاك، وبالتالي هي بحاجة إلى 30 مليار دولار أميركي على مدى عشر سنوات لتمكينها من تأمين نمو مُستدام يسمح بإمتصاص الدين العام الذي أصبح في منطقة لا يُمكن المناورة فيها. إن عدم وضع خطّة للجم العجز سيؤدّي إلى زيادة آنية في موازنة العام 2017 بحيث سيتجاوز السبعة مليارات دولار أميركي وزيادة هيكلية بحكم أن هذا العجز المُموّل من الدين العام سيزيد حكماً خدمة الدين العام التي ستتحوّل إلى عجز بدورها. من هذا المُنطلق، لا نرى من حلّ إلا عبر خفض الإنفاق الجاري الذي يُعتبر المرض الأول في المالية العامة. هذه الأخيرة تنقل المرض إلى الإقتصاد من خلال حرمان هذا الأخير من فرص الإستثمار (منافسة القطاع العام للقطاع الخاص على رأس المال، الهدر والفساد…). خفض الإنفاق يجب أن يمرّ عبر نقاط عدّة أصبحت معروفة جيداً من أصحاب القرار، أي السلطة السياسية وعلى رأسها خفض الإنفاق الجاري (وليس الإستثماري) من خلال وقف الهدر والفساد وإستعادة الدوّلة اللبنانية سلطتها المالية على كامل الأراضي اللبنانية.

Print Friendly, PDF & Email