يُشكّل موضوع تمويل الكيانات التي تعتبرها واشنطن “إرهابية” صلب الحدث في كلّ مرّة هناك عملية عسكرية ضدّ الأميركيين أو مصالحهم في العالم. ولعلّ الهجمات الإرهابية على مركز التجارة العالمي في العام 2001 كانت حجر الزاوية الذي أنشأت من خلاله الإدارة الأميركية ترسانة من القوانين (مثل الـ Patriot Act) التي تمنع تمويل الكيانات التي تُصنّفها واشنطن إرهابية من الوصول إلى التمويل، مُستعينة باقتصادها الضخّم لرقابة التحاويل المالية في العالم، وفرض إقرار قوانين مواكبة على مُعظم دول العالم.

أثبت الهجوم الإرهابي على مركز التجارة العالمية في الولايات المُتحدة الأميركية في 11 أيلول 2001، أنّ المهاجمين كانوا يتمتّعون بقدرات مالية هائلة وهو ما أسفر عن استراتيجية أميركية، استطاعت فرضها على العالم بمعظمه، تنصّ على الرّقابة القوية على النظام المالي العالمي وعلى التحاويل المالية عبر المصارف وشركات تحويل الأموال، ومدعومة بسلسلة من القوانين التي شملت الدول الغربية بمعظمها وانتشرت لاحقًا في معظم الدول الأخرى (في لبنان تمّ إقرار هذه القوانين في كانون الأول من العام 2015).

إلّا أنّ كلّ هذه الإجراءات القوية لا تُجدي نفعًا إلّا في حال استخدام القنوات الرسمية على مثال المصارف والشركات المالية، ولا تصلح في حال العملات المُشفّرة والمعروفة أيضًا باسم “الأصول المشفرة” أو “العملة الإلكترونية”. إذ يتم إصدار العملة المُشفّرة من نظير إلى نظير (peer to peer) دون الحاجة إلى مصرف مركزي أو مصرف أو شركة مالية، ويمكن استخدامها عن طريق شبكة كمبيوتر لا مركزية. وتستخدم هذه العملات تقنية الـ “بلوكتشين” التي تُشفّر المعلومات التي تُتيح عمليات إصدار وتسوية (settlement) المعاملات من دون أيّ تدخّل بشري.

ترفض المصارف المركزية في العالم (بإستثناء البعض منها) إستخدام العملات المُشفّرة وذلك بسبب فقدانها السيطرة على السياسة النقدية، حيث لن يكون بمقدور هذه المصارف المركزية السيطرة على الكتلة النقدية من عملاتها بحكم فقدانها حصريّة الإصدار. وتخشى السلطات الرقابية السماح باستخدام العملات المُشفّرة على نطاق واسع (هناك العديد من الصناديق، لكنّها مراقبة بشكل كبير) بسبب الإمكانيات الكبيرة التي تتمتّع بها تقنية البلوكتشين والتي تسمح لها بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب من دون أن يكون هناك أي قدرة لهذه السلطات أو غيرها الرقابة على مصدر الأموال أو كيفية إستخدامها.

اليوم ومع العملية التي قامت بها حماس على غلاف غزّة في 7 تشرين الأول الماضي والتي فاجأت الأميركيين، عاد موضوع تمويل المنظّمات إلى الواجهة مع سؤال جوهري: من أين استطاعت حماس تمويل عمليتها على إسرائيل؟ إذ وبحسب الـ “وول ستريت جورنال”، قامت حماس وبعض المجموعات المسلّحة الأخرى بجمع ملايين الدولارات قبل الهجوم الذي قامت به حماس على غلاف غزّة، والأهمّ في هذا التقرير هو إتهام حماس باستخدام العملات المشفّرة للقيام بهذه العملية.

بحسب تقرير لقناة الجزيرة، أصدرت كتائب القسام في كانون الثاني 2019، دعوة للمانحين في جميع أنحاء العالم لدعم المقاومة مالياً من خلال عملة البيتكوين

وأظهر تحقيق لصحيفة الـ “وول ستريت جورنال” أنّ هناك صعوبة كبيرة (على الرّغم من بعض النجاحات) تواجهها كلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل في منع المنظمات المُسلّحة من الوصول إلى التمويل الأجنبي عبر الأصول المشفرة. ويقول التقرير أنّ حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية تلقّت مبالغ كبيرة من المال من خلال المنصّات الرقمية. وإذا كانت مصادر تمويل هذا التنظيم تأتي بالدرجة الأولى من إيران، والضرائب على قطاع غزّة… إلّا أنّ مصادر الأموال الآتية من المنصّات الرقمية أصبحت تُشكّل جزءًا مهمّاً من هذا التمويل.

وبحسب تقرير لقناة الجزيرة، أصدرت كتائب القسام في كانون الثاني 2019، دعوة للمانحين في جميع أنحاء العالم لدعم المقاومة مالياً من خلال عملة البيتكوين. إلّا أنّ حماس ارتكبت أخطاءً استطاعت من خلالها وزارة العدل الأميركية القيام في آب 2020 بأكبر عملية مصادرة لها على الإطلاق لحسابات “العملات المشفرة الإرهابية” حيث صادرت ملايين الدولارات من تنظيم القاعدة وداعش وحماس. وبحسب وزارة العدل الأميركية كانت حماس هي الجائزة الكبرى، إذ قام الضبّاط الفيدراليون بتتبع ومصادرة 150 حسابًا مرتبطًا بالمنظمة، ووجّهت وزارة العدل تهمًا جنائية ضد العديد من المتبرّعين. أكثر من ذلك، بدأت الخزانة الأميركية بتشغيل موقع جمع التبرعات التابع لحماس (alqassam) سرّاً حيث اعتقد أنصار حماس أنّهم يتبرعون بالبيتكوين لدعم الحركة في حين أنّ التبرعات كانت تذهب إلى محافظ تسيطر عليها الحكومة الأميركية وفي نفس الوقت إستطاعت الإدارة الأميركية كشف أسماء المتبرّعين. وبحسب وكالة رويترز، بعد هذه العملية قام “المكتب الوطني الإسرائيلي لمكافحة تمويل الإرهاب” بالسيطرة على ما يقرب من 190 حسابًا مرتبطًا بحماس وعلى عشرات الملايين من الدولارات من العملات المشفرة.

ويُحاول المشرّعون الأميركيون فرض قواعد أكثر صرامة في هذا المجال للحدّ من الاستخدامات السيّئة للعملات المُشفّرة من قبل الجماعات والأفراد الخاضعين للعقوبات. لكن ماذا يُمكن للولايات المُتحدة الأميركية أن تتخذ كإجراءات في هذا المجال؟

استخدمت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين باستخدام التدابير الخاصّة الموجودة في قانون “باتريوت” لإصدار “إشعار بوضع القواعد المقترحة” أو ما يُعرف بالـ NPRM ما من شأنه أن يصنّف العملات الافتراضية كفئة من المعاملات ذات الاهتمام الأساسي بغسل الأموال.

بالتالي أمام شركات العملات الرقمية تسعين يومًا لوضع سجّلات للعمليات وإعداد تقارير خصوصًا عن العملات القابلة للتحويل أو ما يُعرف بالـ (Convertible Virtual Currencies) على أن تقوم شبكة مكافحة الجرائم المالية (FinCEN) بتقييم تصنيف هذه العملات كأدوات لغسل الأموال. وأتى هذا الإجراء بعد الضغط الذي مارسه أكثر من مئة مشرّع من مجلسي النواب والشيوخ الأميركي على الإدارة الأميركية بهدف منع حماس من استخدام العملات المشفّرة كمورد مالي. الجدير ذكره أنّ حركة حماس كانت قد أعلنت في أيار 2023 أنّها لم تعد تستخدم عملة البيتكوين بسبب مخاوف الجهات المانحة من ناحية خصوصيتها.

عمليًا، الإجراء الذي اتخذته يلين وفي حال نُشر سيؤدّي إلى مطالبة المؤسسات المالية المشمولة في العالم بحفظ السجلات والإبلاغ عن المعاملات التي تغطيها المؤسسات المالية التي تعرف أو تشتبه أو لديها سبب للاشتباه في أنّها تنطوي على عمليات تبييض أموال أو تمويل إرهاب داخل أو خارج الولايات المتحدة.