من الواضح أنّ الحكومة اللبنانية ومن خلفها القوى السياسية المُشاركة فيها، أصبحت عاجزة عن إخراج لبنان من أزمته الإقتصادية المُتعدّدة الأوجه. فإعتبار بعض هذه القوى أنّ الحكومة هي حكومة تصريف أعمال، وبالتّالي هي محدودة الصلاحيات وقرارتها قابلة للطّعن، أدّى إلى عدم قدرة الحكومة على أخذ القرارات التنفيذية المناسبة، أو حتّى اقتراح قوانين تكون فيها مصالح الشعب أولوية على حساب المصالح الأخرى (خاصة و/أو دولية). هذا الواقع دفع إلى طريقة عمل جديدة في الحكومة حيث يتمّ تمرير مشاريع قوانين على طريقة الـ Forcing حتّى أنّه نُقل عن أحد الوزراء قوله أننّا أضحينا نُصوّت على بعض مشاريع القوانين من دون دراستها.

ونظرًا إلى الإنقسام السياسي المُزمن، تعطّل أيضًا دور المجلس النيابي في تصويب بوصلة عمل الحكومة حيث أنّ غياب توجّه واضح من قبل المجلس في ما يخصّ عمل الحكومة، يجعل هذه الأخيرة تتخبّط وتأخذ قرارات غير صائبة وغير ملائمة للواقع الحالي. والمُلفت في هذا الأمر أنّ كلّ ما قامت به الحكومة من إجراءات ومشاريع قوانين، أضعف موقف لبنان على الصعيد المحلّي والدولي وجعل لبنان رهينة الخارج أكثر من السابق. بدءًا من خطّة النّهوض الإقتصادي وصولًا إلى موازنة العام 2024 مرورًا بتحرير سعر الصرف… كلّها مشاريع قوانين أضعفت وستُضعف لبنان في المرحلة المُقبلة وتجعله رهينة المُجتمع الدولي خصوصًا على الصعيد المالي.

من المعروف أنّ لبنان أصبح يحتاج بشكل حيوي إلى إصلاحات لأنّ طريقة إدارة البلاد من الناحية الإقتصادية والمالية والنقدية والإدارية لم تعد على مستوى الواقع الذي نعيشه. إلّا أنّ الخلاف الأساسي هو حول ما تحويه عبارة “إصلاحات”! فصندوق النّقد الدّولي الذي تنحصر مُهمّته بمساعدة الدّول على الخروج من الأزمات والحفاظ على استقرار النّظام المالي العالمي، يعتبر كلمة إصلاحات، مجموعة إجراءات جمعها الإقتصادي الأميركي “جيمس ويليامسون” في مستند يُعرف بـ “Washington Consensus” وتحوي على كلّ مطالب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي يفرضانها على الدّول التي تطلب مُساعدتهما وهي تتلخّص في ثلاثة عنوانين (الليبيرالية، الخصخصة، وتحرير القطاعات) ، وتُسمّى بـ “برامج التكيّف الهيكلي” أو “Structural adjustment programs” (Deubel 2008):

1 – عجز في الموازنة أقلّ من 1 إلى

2 – توجيه الإنفاق العام نحو النّشاطات ذات الطابع الإيجابي (صحّة، تعليم وبنى تحتية)؛

3 – خفض الضّرائب؛

4 – سعر الفائدة مُحدّد من قبل السوق عبر آليّة العرض والطّلب؛

5 – سعر صرف حرّ؛

6 – إلغاء كلّ الإجراءات الحمائية للقطاعات الإنتاجية؛

7 – الإنفتاح على الإستثمارات الأجنبية المباشرة؛

8 – الخصخصة (خفض عجز الموازنة والثقة بآليّات السوق)؛

9 – تحرير القطاعات الإنتاجية؛

10 – ضمان الملكيّة الفكرية.

ولاحقًا، تمّ إضافة عدد من الإجراءات الإضافية تحت تأثير النّفحة الإجتماعية، مثل الحوكمة في الشركات (محاربة الفساد وخلق حزام أمان من باب الضمان الإجتماعي)، ومحاربة الفقر.

وتهدف هذه الإجراءات إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية تأتي تباعًا مع الوقت: الإنفتاح على التجارة الدولية بمعناها الواسع (التجارة والإستثمارات الأجنبية المباشرة)، إعتماد سياسة نقدية لسعر الفائدة (مصرف مركزي مُستقلّ وذو مصداقية، ومحاربة التضخّم)، وتحرير القطاعات الإنتاجية (مؤشّرات وتحفيزات من خلال أسعار السوق، الخصخصة).

بالطّبع هناك منهجيات أخرى على مثال الإقتراحات النيوكينيزية (جوزيف ستيغليتز) والتي تعتبر أنّ المنافسة غير المتكافئة المتواجدة في الدول في طور النموّ، تؤدّي إلى تعطيل آليات السوق (الإتفاقات تحت الطاولة، عدم التوازن في الحصول على المعلومات…) وبالتالي تُعطّل قسم من الإجراءات التي يُطالب بها صندوق النّقد الدولي وهو بالتّحديد حال لبنان.

قد يكون بعض المسؤولين قد ساهموا عن معرفة أو عن غير معرفة في دفع لبنان إلى هذا الوضع.

مثلًا إذا أخذنا بعين الإعتبار تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية. هذا الأمر هو مطلب دائم لصندوق النّقد الدولي لكلّ الدول التي تطلب مساعدته (مثال مصر حاليًا). ويأتي هذا المطلب من منطلق أنّ سعر الصّرف هو باب لتصحيح الخلل المالي (نُشدّد على المالي) في الماكينة الإقتصادية، إذ يأتي ليعكس قوّة خلق الثروات من قبل هذه الماكينة. وبالتّالي وفي حال لبنان، وفي ظلّ غياب الإصلاحات التي تضمن عمل فعّال لآليات السوق كما نصّت عليه النظرية الإقتصادية (مثلًا محاربة الفساد والتهرّب الضريبي والتهريب الجمركي…)، فإنّ تحرير سعر صرف الليرة سيؤدّي إلى سيناريو من إثنين:

1- طبع العملة لتلبية إحتياجات الحكومة والماكينة الإقتصادية وهو ما يعني ضرب الليرة التي ستفقد قيمتها أكثر في ظل التحرير.

2- عدم طبع العملة وهو ما يعني أنّ الشعب سيكون عرضة لحالة من التفقير بسبب عدم قدرة الشركات والدولة على دفع الرواتب التي تؤمّن عيشة كريمة (خلّل في آليات السوق نتيجة الفساد).

بالطبع، هناك أصوات تقول أنّ السوق اللبناني أصبح مدولرًا وبالتّالي لا خوف من عملية التحرير، إلّا أنّ ما يجب التشديد عليه هو أنّ صندوق النّقد والجهات الدولية ستبدأ مُعالجة الإقتصاد النقدي وتحديد مصدر الأموال المتواجدة في لبنان، والتي تعتقد مجموعة العمل المالي (Financial Action Task Force) أنّها تأتي من مصادر مشبوهة، وهو ما يعني حكمًا خفض حجم الكتلة النقدية بالدولار في السوق. وبالتّالي سيُصبح لبنان رهينة المساعدات والقروض الدولية التي ستُحدّد قيمة عملته.

على صعيد آخر، كان مُلفتًا خطّة الطوارئ الحكومية والتي تُعطينا صورة عن المدى الذي وصل إليه رهن لبنان للخارج، إذ أنّها تعتمد بالكامل على المساعدات الخارجية في كلّ القطاعات التي تمّ ذكرها في الخطة. وماذا نقول عن قطاع الكهرباء والذي لولا المساعدات العراقية لما رأينا كهرباء على الشبكة، أو عن المساعدات التي تأتي من بعض الدول للمؤسسات العسكرية والأمنية أو المساعدات الغذائية والطبّية الأممية؟

إذًا وكما يظهر من خلال ما سبق، أصبح لبنان رهينة المُجتمع الدولي (أهداف سياسية؟!)، وقد يكون بعض المسؤولين قد ساهموا عن معرفة أو عن غير معرفة في دفع لبنان إلى هذا الوضع (مثلًا التخلّف عن دفع سندات اليوروبوندز). في كلا الحالتين، يتوجّب تعديل منهجية عمل هؤلاء المسؤولين أو ترك المجال لغيرهم علّ هؤلاء يستطيعون إنقاذ ما تبقّى!