Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

استحقاق ”اليوروبوند“ والخيارات المتاحة أمام الحكومة اللبنانية…

البروفيسور جاسم عجاقة: هناك شبه إلزامية لدفع استحقاق 9 آذار على أن تقوم الحكومة بعدها بدراسة خيار إعادة هيكلة الدين العام!

موقع الافكار | طوني بشارة

كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن استحقاق اليوروبوند في 9 آذار (مارس) المقبل، والاستحقاقات الـ27 الأخرى، وتضاربت الآراء حول ضرورة الدفع وجدوى التأجيل او إعادة جدولة الدين، فيما لم يتم التطرق إطلاقا الى الأسباب التي أدت الى هذه الأزمة المستفحلة.

فما سبب الاستدانة في لبنان؟ وما الحلول الممكن إتباعها؟ وهل من المنطقي دفع استحقاق 9 آذار (مارس)؟ وماذا عن الاستحقاقات الأخرى؟

أسئلة عديدة للإجابة عنها التقت <الأفكار> الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة، وكان السؤال المدخل عن السبب الرئيسي للمشكلة التي نعاني منها حاليا في لبنان فيقول:

– على الرغم من الصعوبات التي تواجه لبنان، يقترح البعض القيام بالإجراءات الأكثر صعوبة والأكثر وجعاً على الشعب اللبناني، فبين خفض سعر صرف الليرة والـ<هيركات> مروراً بتحويل جزء من الحسابات من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية، يذهب هذا البعض بعيداً في الطروحات في حين أن المشكلة الأساسية هي في مكان آخر وحلّها يبقى الاساس لأي حلّ مُستقبلي. والمشكلة التي نتحدّث عنها هي مشكلة الفساد الذي يعصف بلبنان منذ نشأة الدولة اللبنانية وحتى يومنا هذا، فهذه المشكلة هي التي أنزلت الناس إلى الشارع وهي التي وضع المجتمع الدولي حلّها كشرط أساسي لأي مساعدة. إذاً بأي حق نذهب إلى خيارات أخرى قبل حلّ هذه المشكلة؟

ــ ولكن الجهات المعنية تحاول إيجاد حلول عديدة منها الـ<هيركات> والتحويل الى الليرة، افلا تعتبر هذه الإجراءات فعالة؟

– طرح الحلول عبر خفض سعر صرف الليرة والـ<هيركات> وتحويل جزء من الحسابات إلى الليرة وغيرها من الخيارات الأخرى ما هي الا حلول جزئية وليست حلولاً مُستدامة! وهذا الأمر شبه محسوم، فالمعروف أن الفساد الذي استفحل بعد انتهاء الحرب الأهلية تحصّن بمقولة <السلم الأهلي فوق كل اعتبار> وهي المقولة التي منعت محاسبة أي فاسد لأن محاسبته تُفسّر على انها استهداف لطائفته أو حزبه مع العلم أن هذا الشخص هو مرتكب الفساد وليس طائفته. وان كل الحكومات التي تعاقبت على الحكم في لبنان فشلت في وضع حدّ لهذه الآفة خصوصاً حكومات ما بعد <الطائف>، ومعظم الأجهزة الرقابية التي أنشأت انما تمّ إنشاؤها على عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي كان يملك أداة فعالة آنذاك هاجمها اللبنانيون لاعتقادهم أنها غير ملاءمة، إلا أن التاريخ أثبت أن العقاب هو الأساس في حسن سير المجتمعات وان تطبيق القوانين هو العمود الفقري لاستدامة الدولة.

ــ وما سبب هذا التهاون في التعاطي مع الفساد؟

– التهاون في التعاطي مع الفساد في لبنان يمكن تحليله من وجهة نظر سياسية بخطأ ارتكبه أصحاب القرار، وهذا الأمر دفع بأصحاب القرار إلى أخذ قرار ثانٍ مبني على القرار الأول مما انتج سلسلة قرارات خاطئة عزّز من خلالها كل طرف موقعه، وبالتالي فان غياب المنطق الهدفي (Logique Objective) يجعل التنبؤ بالأحداث المستقبلية شبه مستحيل مما يعني تطوراً عشوائياً للأحداث مبنياً على تعظيم الاستفادة الفردية للفاسدين على حساب المصلحة العامة.

كلفة الفساد!

ــ الفساد واقع لا محالة فكم تبلغ كلفته وهل من الممكن معالجته؟

– الفساد مكلف كثيراً على خزينة الدولة اللبنانية ولا يمكن محاربته إلا من خلال ضغط داخلي أو خارجي وهذا ما يحصل حالياً. إذاً كل ما على حكومة الرئيس حسان دياب القيام به هو البدء بمحاربة الفساد والقيام بالإصلاحات اللازمة لتصحيح وضع أنهك مفاصل الدولة وأضعف مؤسساتها وشل عملها الإجتماعي والإقتصادي، فكلفة الفساد في لبنان هي عشرة مليارات دولار أميركي، وعلى الرغم من الوضع المالي الحالي والأزمة التي يعيشها لبنان، ما زال هذا الفساد يعبث بالدولة على كافة المستويات،  كيف يمكن للبنان أن يخرج من هذه الأزمة من دون محاربة الفساد؟ الجواب مستحيل!

ــ هل من مكامن تعتبر اكثر عرضة من غيرها للفساد؟

– الأملاك البحرية والنهرية، سكك الحديد، الجمارك، التهرب الضريبي، المناقصات العمومية، التخمين العقاري، مؤسسة كهرباء لبنان، الإتصالات… كلها مكامن يعبث فيها الفساد وبحاجة إلى عناية من قبل الحكومة، وقد ضجّ الإعلام بتصاريح المسؤولين الذين يتوعدون بمحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين خصوصاً في السنوات الأخيرة، إلا أننا لم نشهد أي ترجمة لهذه الوعود على الأرض، فيما اليوم خلاص لبنان لن يكون الا عبر محاربة الفساد، وحتى إذا طلب لبنان مساعدة صندوق النقد الدولي فإن أول ما سيطلبه الصندوق هو محاربة الفساد، إلا أن الفارق أن طلب الصندوق سيكون مُرفقاً بطلبات أخرى موجعة لن تمر دون تداعيات إجتماعية على المواطن اللبناني.

فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وفي تصريح له، قال أن كل من مدّ يده على المال العام سيُحاسب. هذا التصريح يجب أن يكون بمثابة البوصلة بالنسبة لحكومة الرئيس حسان دياب، وأول ما يجب أن يكون على طاولة مجلس الوزراء هو خطّة مُفصّلة لمكافحة الفساد في كل مؤسسات الدولة اللبنانية ووزاراتها، فلقد وصل الأمر إلى صدقية الدولة داخلياً وخارجياً ولا بدّ من المحافظة على حسن سمعة الدولة لأن كتب التاريخ لن ترحم أحداً.

وتابع عجاقة قائلا:

– عملياً نرى أن أهم نقطة في خطة الحكومة هي البدء بمحاربة الفساد مما سيدرّ إيرادات إضافية على الخزينة ويوفّر عليها أعباء غير مجدية، واننا لنتطلع بشغف لتفاصيل الخطّة التي يجدر أن تضمّ في طياتها استقلالية القضاء وأجهزة الرقابة لما

لهذه الأجهزة من دور أساسي في المحافظة على مؤسسات الدولة وعلى المال العام.

ــ الدين العام و<اليوروبوند> من مخلفات الفساد، فكيف وصلنا الى تراكمية هذا الدين؟ والا تعتمد الاستدانة لحل الازمات العالمية؟

– الدين العام هو نتاج عجز الموازنة الذي هو بدوره نتاج السياسات الحكومية، ففي نهاية كل عام يتحوّل عجز الموازنة تلقائياً إلى دين عام حيث يتمّ تمويله من خلال إصدار سندات خزينة. وفي الإجمال، الاستدانة ليست بأمر سيء بل هي تعكس أملاً في المستقبل حيث تتمّ الاستدانة لتمويل مشاريع في معظمها إستثماري، وتشكّل الاستدانة في حدّ ذاتها رافعة مالية يمكن للدول الاستفادة منها لتعظيم الاستفادة من المشاريع، إلا أن تخطّي درجة معينة من الدين العام نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي يؤدّي إلى فقدان السيطرة على الدين العام. من هذا المنطلق، قامت المؤسسات العالمية بوضع عتبات لا يتوجّب أن يتخطّاها الدين العام في بلد مُعين. ففي حالة أوروبا مثلا، فرضت <معاهدة ماستريخت> أن تكون نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي أقلّ من 60 بالمئة، كما أن العديد من الدراسات قسّمت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي إلى ثلاث فئات:

أولا ــ أقلّ من 30 بالمئة وهذه الدول هي دول تتمتّع بسيطرة كاملة على دينها العام.

ثانياً ــ ما بين 30 بالمئة و90 بالمئة وهذه الدول مدعوة لأخذ إجراءات لخفض دينها العام.

ثالثاً ــ أكثر من 90 بالمئة وهذه الدول هي دول في خانة الخطر حيث أن استعادة السيطرة تفرض إجراءات قاسية.

لبنان… في منطقة الخطر!

ــ هذه النسب الا تخضع لحجم اقتصاد الدول؟ وإستناداً الى ذلك ضمن أي فئة يصنف لبنان؟

– بالطبع يلعب حجم الاقتصاد وهيكليته دورا أساسيا في الحكم على النسب، ففي حال اليابان مثلا، تبلغ هذه النسبة 250 بالمئة إلا أن حجم الإقتصاد الياباني (4.8 تريليون دولار أميركي) وديناميته يلعبان دوراً كبيراً في ثبات أسعار سندات الخزينة اليابانية في الأسواق بحكم أن هذا الإقتصاد قادر على تغطية خدمة الدين العام بدون أية إشكالية.

اما في لبنان فيبلغ الدين العام 90 مليار دولار أميركي أي ما يزيد عن 158 بالمئة من الناتج المحلّي الإجمالي! هذه النسبة وحجم الإقتصاد اللبناني وهيكليته الخدماتية بامتياز تجعل منه بلداً في منطقة الخطر نظراً إلى أن الإقتصاد عاجز عن تغطية خدمة الدين العام.

وانه لاستعادة الانتظام المالي، يتوجّب على الدولة اللبنانية أن تُسجّل فائضاً في الميزان الأولي يفوق قيمة خدمة الدين العام، مما يعني انه يتوجّب على الاقتصاد أن ينمو بشكل يسمح للضرائب والرسوم بأن تفوق قيمة خدمة الدين العام!

ــ كخبراء اقتصاديين الم تحذروا الجهات المعنية من هذا الخطر؟ وهل الاستدانة اليوم تعتبر حلاً للازمة؟

– الدين العام اللبناني وصل إلى مستويات خطيرة جداً، وتحذيراتنا منذ ما يقارب العشر سنوات لم تُجد نفعاً، فلبنان فقد رسمياً السيطرة على دينه العام في اللحظة التي بدأ فيها الاقتراض بالدولار الأميركي. وبملاحظة تطوّر الدين العام منذ كانون الأول (ديسمبر) 1992 وحتى يومنا هذا، نرى أن كل الحكومات ساهمت في رفع الدين العام ولم تستطع أي منها كسر الاتجاه التصاعدي لهذا الدين من خلال إصلاحات إقتصادية تسمح للإقتصاد بتمويل الإستدانة، فقد اعتمدت الحكومات كلّها على مبدأ الإستدانة لتمويل الإستدانة حتى أنه أصبح من شبه المستحيل على الدولة سدّ إستحقاقاتها من دون الإستدانة من الأسواق.

وتابع عجاقة قائلا:

– أمّا اليوم فقد أصبح من شبه المستحيل الإستدانة من الأسواق مع التصنيف الإئتماني الحالي، لذا تواجه الحكومة مشكلة دفع الإستحقاقات. وتبلغ قيمة رأس المال المُستدان من قبل الدولة اللبنانية (بالدولار الأميركي فقط) على شكل سندات يوروبوندز ما قيمته 28.314.133.000 دولار أميركي، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الفوائد على هذا الدين، تُصبح الفاتورة 43.486.759.727 دولار أميركي. هذه الأرقام الصادمة هي نتاج السياسات الحكومية على مرّ السنين والتي أوصلت لبنان إلى الحالة التي هو فيها.

ــ وكيف سيتمّ دفع استحقاق 9 آذار (مارس) المقبل والاستحقاقات التي تليه؟

– استحقاق 9 آذار (مارس) من سندات اليوروبوندز والبالغ 1.276.500.000 دولار أميركي ينتظر قرار الحكومة بدفعه أو عدم دفعه، فهناك وجهتا نظر مختلفتان الأولى تنصح بعدم الدفع نظراً إلى أن لبنان أصبح على شفير الإفلاس وبالتالي الدفع وعدم الدفع سيّان، أما الثانية فتنصح بدفع الاستحقاق حيث أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة طرح على رئيس الحكومة السابق سعد الحريري خطّة تنصّ على دفع الدين الخارجي واستبدال الداخلي باستحقاق جديد، وكان جواب الرئيس الحريري آنذاك أن الحكومة الجديدة هي من ستأخذ هذا القرار.

وهنا يأتي طلب الحكومة المساعدة التقنية من قبل صندوق النقد الدولي على أن يعرض هذا الأخير الخيارات المطروحة بالأرقام بما فيها إعادة هيكلة الدين العام، وتنتظر الحكومة آخر شباط الجاري لتأخذ قرارها في الموضوع، إلا أن ما يجب قوله هو أن عدم الدفع سيجلب إلى لبنان سيناريوهات لن يكون بمقدوره مواجهتها خصوصاً على الصعيد الإجتماعي. من هذا المنطلق، نرى أن هناك شبه إلزامية لدفع استحقاق 9 آذار (مارس) على أن تقوم الحكومة بدراسة خيار إعادة هيكلة الدين العام بعد دفع الاستحقاق، فهذا الأمر يعفي الدولة من ملاحقات قانونية سيتم من خلالها حجز أصول الدولة بما فيها البواخر التي تجلب المواد الأولية.

Print Friendly, PDF & Email
Source مجلة الافكار