Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

بعد الخطوة الفرنسية ومؤشراتها السلبية، القطاع المصرفي صامد

مؤشر سلبي لتراجع الدعم الفرنسي للبنان أو خطوة تكتية للمجموعة؟

الديار | بروفسور جاسم عجاقة

أخذت مجموعة سوسيته جنرال في فرنسا إجراءً محاسبيًا يقضي بوضع مؤونة بكامل قيمة حصة المجموعة في سوسيته جنرال لبنان (SGBL) والبالغة 158 مليون يورو أي ما يُشكّل كامل الحصّة في رأسمال المصرف اللبناني. هذه الخطوة فسّرها البعض (المُتشائم) بأنها علامة على إنهيار القطاع المصرفي، إلا أن الواقع هو أكثر تعقيدًا ويحمل رسائل سياسية بالإضافة إلى خطوات تكتية لمجموعة سوسيته جنرال فرنسا.

المعروف في عالم المصارف أن التصنيف الإئتماني هو عنصر أساسي ومؤثر في أرباح المصارف. فالعولمة سمحت للمصارف بالإقتراض في الأسواق المالية من خلال إصدار سندات وأوراق مالية خاصة بها بالإضافة إلى الإقتراض البيني بين المصارف. وبالتالي فإن خفض التصنيف الإئتماني للمصارف تزيد حكمًا من كلفة الإقتراض أي في النهاية سعر البيع. وبسبب التنافسية العالية في عالم المصارف، لا يُمكن للمصارف إلا المحافظة على تصنيف عالي بهدف الحفاظ على ربحية عالية تسمح بزيادة الثقة بالمصرف المعني خصوصًا من قبل المساهمين حيث أن كل المصارف الكبيرة في العالم هي مصارف يتمّ التداول بأسهمها في الأسواق المالية.

ففي أوائل العقد الماضي، قامت العديد من المصارف الفرنسية بالإنسحاب من السوق اللبناني عبر بيع حصصها في المصارف اللبنانية وعلى رأسها مصرف «BNP»، وسوسيته جنرال حيث تم إنسحاب المصرف الأول بالكامل، في حين حافظ المصرف الثاني على حصة من رأسمال المصرف اللبناني «SGBL». هذه الخطوة تمّ تبريرها بالمحافظة على تصنيف عالي للمصارف الفرنسية نظرًا إلى التصنيف المُنخفض أنذاك للبنان. وبالتحديد فيما يخص بنك سوسيته جنرال، قامت المجموعة ببيع 8

إعادة التموضع في عالم الأعمال هو أمر طبيعي نظرًا إلى المخاطر التي تحفّ الأعمال التي تمتلكها الشركات في بعض الدول التي تعيش حالة من عدم الثبات السياسي كما هي الحال في لبنان. وبالتالي فإن المصرف الفرنسي قام بإحتساب الخسائر في ربحيته الناتجة عن خفض تصنيفه الإئتماني والتي تبيّن أنها أعلى من قيمة حصّته في مصرف سوسيته جنرال في لبنان. من هذا المُنطلق لم يكن خيار تكوين مؤونة بقيمة الأسهم التي يمتلكها في المصرف اللبناني، صعب على المصرف الفرنسي. الجدير ذكره أن سبق وقامت المجموعة بهذا النوع من العمليات مع حصص لها في دول أخرى وقامت بعد تلاشي المخاطر بإلغاء المؤونة كما تُثبته البيانات المالية للعام المالي 2019.

إلا أن القراءة الأخطر في العملية هو عدم قيام الدولة الفرنسية بأية إجراءات لدعم لبنان خصوصًا أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شدّد في أكثر من مناسبة على أن فرنسا ستقف إلى جانب لبنان. من هنا نطرح السؤال لماذا لم تقم الحكومة الفرنسية بإجراء مثل تقديم ضمانة للمصرف الفرنسي أو نحيه عن هذا الإجراء المحاسبي الذي يضر بلبنان على صعيد الثقة أكثر منه على الصعيد المالي؟ الجواب الوحيد الذي وجدناه هو أن الحكومة الفرنسية تقف عاجزة أمام الضغوط الدولية عليها (قد تكون أميركية؟) وبالتالي هناك إستنتاج أساسي مفاده أن التموضع السياسي اللبناني لن يسمح للدول الخارجية بمساعدة لبنان حتى ولو بأرقام صغيرة مثل 158 مليون دولار أميركي التي لا تُشكّل أي عبء على دولة مثل فرنسا.

وهنا يُمكن القول أن خطوة مجموعة سوسيته جنرال فرنسا التي هي خطوة تكتية تهدف إلى المحافظة على تصنيف المصرف الفرنسي من خلال خلق مؤونة للتحوط من مخاطر تطوّر الأوضاع السياسية والمالية في لبنان في الأشهر القادمة، تخفي خلفها رسائل سياسية وسيناريوهات يتوجّب ربما على القوى السياسية قراءتها جيدًا.

وأحد أهم هذه السيناريوهات قد يكون أن المرحلة المُقبلة ستكون قاسية جدًا على لبنان إن إقتصاديًا أو ماليًا نتيجة تصعيد مواقف المجتمع الدولي وخصوصًا الولايات المُتحدة الأميركية تجاه لبنان وذلك على خلفية موقفه من صفقة القرن وتدخله في بعض الدول الإقليمية. وبالتالي فضّل المصرف الفرنسي إعتبار نفسه مُنسحبًا (أقلّه على الورق) من السوق اللبناني عبر خلق مؤونة تسمح له بالمحافظة على تصنيفه الإئتماني في المستويات التي يُريدها!

على كل الأحوال وعلى الرغم من الخطوة الفرنسية التي نعتبرها خطيرة سياسيًا، لا تدعيات مالية عملية على الواقع المصرفي اللبناني نظرًا إلى أن العملية هي عملية مُحاسبية بحت ولا خطوات إجرائية على الصعيد المصرفي. أيضًا يبقى القول أن حجم المصرف يُشكّل عنصراً أساسياً في صلابته مع موجودات بلغت 39 ألف مليار ليرة لبنانية في العام 2018، وودائع بقيمة 28 ألف مليار ليرة لبنانية في العام 2018 وتسليفات بقيمة 8778 مليار ليرة لبنانية في العام 2018. أضف إلى ذلك أن إلتزام مصرف لبنان بحماية القطاع المصرفي عملا بالبند الثالث من المادة 70 من قانون النقد والتسليف، يُشكّل ضمانة إضافية للمودعين حيث أنه من بين الخيارات (في أسوأ الحالات) دخول مصرف لبنان في رأسمال المصرف منعًا لظاهرة الدومينو (Domino) في حال إنسحبت الخطوة الفرنسية على الواقع الداخلي اللبناني.

يبقى القول أن الإستمرار في بث جو من السلبية مع كل تطوّر يطرأ على المشهد اللبناني، لا يصبّ في مصلحة لبنان ولا اللبنانيين. فحبّذا لو أن الحسّ الوطني يغلب على تصرفاتنا وكل من لديه مُعطيات أن يُقدّمها إلى الحكومة اللبنانية لكي تقوم بما هو ضروري للحفاظ على مصالح اللبنانيين.

Print Friendly, PDF & Email
Source الديار الجريدة