Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

لبنان بحاجة الى سياسة إقتصاديّة محورها المواطن

الديار | بروفسور جاسم عجاقة

يوم المصارف البارحة، كان يومًا طبيعيًا حيث فتحت المصارف أبوابها وإستقبلت الزبائن حتى الساعة الخامسة بعد الظهر. العمليات التي تمّ القيام بها من قبل الزبائن، كانت عمليات روتينية مثل سحب المعاشات، إيداع شيكات، سحب شيكات… وغيرها. عدد عمليات تحويل الليرة إلى الدولار وإلى الخارج كانت ضعيفة نسبة إلى عدد العمليات الإجمالي حيث إقتصرت على طلبات عدد من التجّار الذين يستوردون بضائع من الخارج.

على كل الأحوال، إستطاع المصرف المركزي إثبات قدّرته على مواجهة التحدّيات الكبيرة والحفاظ على سعر ثابت للّيرة اللبنانية في السوق الرسمي (بين المصارف) وإنخفض في نفس الوقت سعر الدولار لدى الصيارفة كما أشار العديد من الأشخاص. أيضًا إستطاع القطاع المصرفي من خلال هذه الخطّوة الجريئة والذكية إثبات ملاءته. هذه الخطّوة المُباركة تستمر اليوم حيث من المتوقّع أن تفتح المصارف أبوابها حتى الساعة الخامسة مساءً لتقديم الخدمات المصرفية المُعتادة للزبائن. هذا الواقع بالإضافة إلى إعادة فتح الطرقات الرئيسية، أضّفى جوًا من التفاؤل وأحدث صدّمة إيجابية في الأسواق وصل صداها إلى سوق سندات الخزينة اللبنانية بالدولار الأميركي (اليوروبوندز).

النظام الإقتصادي الحرّ في لبنان يُحافظ على تماسكه، لكنه بحاجة إلى تناغم مع العملية السياسية التي يجب أن تؤدّي إلى إنفراج كامل إذا ما تمّ التسريع في تشكيل حكومة ذات مصداقية تعمد إلى إرساء الثقة بين المواطنين والأسواق من جهة وبين الدّولة من جهة أخرى، وتنفيذ الإصلاحات الضرورية خصوصًا تلك التي تمّ إقرارها في مجلس الوزراء وتلك التي وردت في ورقة بعبدا المالية الإقتصادية.

تحوي ورقة بعبدا المالية الإقتصادية على الكثير من الإصلاحات وتنصّ على أن تقوم الحكومة بمناقشة دراسة ماكنزي بهدف وضع خطّة إقتصادية تسمح بنقل الإقتصاد اللبناني من إقتصاد شبه – ريعي إلى إقتصاد مُنتجّ.

في الواقع التدابير الاقتصادية التقليدية (أي من الناحية الاقتصادية البحتة)، تعني قدرة الاقتصاد الوطني على خلق والحفاظ على نمو سنوي في إجمالي الدخل القومي بمعدل أعلى من 5 في المائة سنويًا. وحتى وقت قريب، كان يُنظر إلى التنمية على أنها ظاهرة اقتصادية بحتة من ناحية أن مشاكل الفقر وتوزيع الدخل والبطالة كانت تُعتبر ثانوية! لكن ركود مستويات المعيشة على الرغم من النمو في خمسينات وستينات القرن الماضي، أظهر إلى العلن في السبعينات، إقتصاداً جديداً للتنمية. هذا المفهوم الذي يُسمّى التنمية، هو عبارة عن عملية متعددة الأبعاد تنطوي على تغييرات في البنية الاجتماعية والمواقف الشعبية والغرائز الوطنية، إلى جانب تسارع النمو الاقتصادي، والحد من عدم المساواة، والقضاء على الفقر.

ويُعتبر الإنماء مجالاً أوسع للدراسة من الاقتصاد التقليدي حيث يتمّ الإهتمام بالتوزيع الفعال للموارد الإنتاجية المحدودة ونموها المستدام مع مرور الوقت، لكن أيضًا الآليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمؤسسية والخاصة والعامة اللازمة لتحسين مستويات المعيشة.

إذًا ومما تقدّم نرى أن التنّمية هي مفهوم أوسع من مجرّد نمو الدخل الفردي الذي يبقى بُعدًا مهمًا من أبعاد هذه التنمية. في الواقع هذه النظّرة للسياسة الإقتصادية تفرض أن يكون الإنسان هو المحور الأساسي من خلال كل الإجراءات التي يُمكن للحكومات القيام بها، مع إحترام البيئة والمحافظة على إستدامة الموارد وفي نفس الوقت تعظيم النمو الإقتصادي. هذه المُعادلة تخلق ما يُسمّى بالإنماء المُستدام الذي يستند إلى رؤية بعيدة الآمد.

أحد الأمثلة التي تنطبق على المجتمع اللبناني هو الفقر: ففي النظرة التقليدية للإقتصاد، محاربة الفقر تتمّ من خلال زيادة الدخل، لكن في نظرة الإنماء المُستدام يتمّ النظرّ إلى الفقر من منظور (بالإضافةً إلى الدخل) ماهية الشخص، ما يفعله أو ما يمكنه فعله. وهذه الرؤية تأخذ في عين الإعتبار عدداً من الأمور التي لا يُمكن للنظرة التقليدية مُقاربتها. مثال على ذلك الفوارق الإجتماعية لنفس مستوى الدخل: عدم التجانس الشخصي (المرض أو الإعاقة أو العمر أو الجنس)؛ التنوع في البيئة (التدفئة في الأماكن الباردة ، والأمراض المعدية في المناطق المدارية)؛ التغيرات في المناخ الاجتماعي (الجريمة والعنف ورأس المال الاجتماعي)؛ الاختلافات في وجهات النظر العلائقية (وسائل الراحة…)؛ والتوزيعات داخل الأسرة وعدم المساواة المحتملة.

من هذا المُنطلق، أي سياسة تنوي الحكومة المقبلة وضعها، يجب أن ترتكز على ثلاث ركائز هي:

(1) الركيزة الاقتصادية: التنمية الاقتصادية التقليدية؛

(2) الركيزة البيئية: إحترام التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية، والحد من الانبعاثات الملوثة، وعدم تدمير رأس المال الطبيعي؛

(3) الركن الاجتماعي: الآثار الاجتماعية للنشاط الاقتصادي، مشكلة عدم المساواة، ظروف العمل، والحياة.

هذه الركائز الثلاث تمّ ترجمتها إلى سبعة عشر هدفًا من قبل الأمم المُتحدة تحت عنوان «أهداف التنمية المُستدامة» والتي تعتبر خارطة طريق لكل دول العالم من أجل رفع مستوى الشعوب بما يتناسب والكرامة الإنسانية. هذه الأهداف هي: القضاء على الفقر، القضاء التام على الجوع، الصحة الجيدة والرفاه، التعليم الجيد، المساواة بين الجنسين، المياه النظيفة والنظافة الصحية، طاقة نظيفة وأسعار معقولة، العمل اللائق ونمو الإقتصاد، الصناعة والإبتكار والهياكل الأساسية، الحد من أوجه عدم المساواة، مدن ومجتماعات محلية مستدامة، الإستهلاك والإنتاج المسؤولان، العمل المناخي، الحياة تحت الماء، الحياة في البرّ، السلام والعدل والمؤسسات القوية، عقد الشراكات لتحقيق الأهداف.

هذه الأهداف يجب أن تكون في قلب أي سياسة إقتصادية للحكومة حيث تكون الإجراءات التي تنصّ عليها الخطّة تصبّ في خدّمة تحقيق هذه الأهداف.

إن ما شهده لبنان من إحتجاجات شعبية في الفترة الأخيرة، هو نتاج اللاعدالة الإجتماعية في لبنان، التوّزيع اللاعادل للثروات الناتجة عن النمو الإقتصادي، المستوى السيىء للخدمات العامة، غياب الأمنّ الإجتماعي، إرتفاع البطالة، إرتفاع كلفة التعليم، غياب التغطية الصحيّة، غياب البنى التحتية، مستوى التلوّث المُرتفع نتيجة النفايات… كل هذه الأسباب لها علاقة بالإنسان وبكرامته ومن دونها لن يكون هناك بعد اليوم من ثبات سياسي وإجتماعي وحتى أمّني في لبنان.

Print Friendly, PDF & Email
Source الديار الجريدة