jassemajaka@gmail.com
الفساد خطر جدّي على الثروة النفطية لا يقلّ خطرا عن المطامع الإسرائيلية
الصراع الدولي على مصادر الغاز يجعل من لبنان ساحة مواجهة حقيقية
الديار | بروفسور جاسم عجاقة
أيما أخطر على نفط لبنان، العدو الإسرائيلي أو الفساد الداخلي؟ هذا السؤال هو سؤال مشروع في ظل الأطماع الإسرائيلية التي لم تعد بحاجة إلى إثباتات وفي ظل استفحال الفساد في الكيان اللبناني، وليس بجديد القول أن كلاهما أدّى إلى أضرار جسيمة على لبنان وعلى اقتصاده.
الصراع على الغاز
تستورد الدول الأوروبية الغاز من كل من روسيا، النروج، الجزائر، قطر، نيجيريا، أذربدجيان، برو، ترينيداد وتوباغو. وتؤمّن الشركات الروسية 4
يستهلك العالم سنويًا من الغاز الطبيعي بحدود الـ 3500 مليار متر مُكعّب أي ما يوازي الكمية المُنتجة. وتحتل أوروبا المرتبة الأولى مع استهلاك سنوي من الغاز الطبيعي يوازي واحد تريليون متر مكعّب (ألف مليار متر مكعّب) مُستخدم بشكل واسع في الاستهلاك المنزلي والصناعي!
الأمن الحراري للقارة العجوز بدأ يتهدّد مع بروز مُشكلتين إلى العلن:
المُشكلة الأولى تتمثل ببدء نضوب الغاز الطبيعي الموجود في بحر الشمال (عملاً بمنحنى هوبرت). هذا الغاز الذي يُغذّي السوق الأوروبي بكمّية تُقارب الـ 120 مليار متر مُكعّب، أصبح مصدر تهديد للأمن الحراري للقارة العجوز وبالتالي أصبح البحث عن مصادر أخرى أولوية للأوروبيين.
المُشكلة الثانية تتمثّل بالعلاقات المُتوتّرة بين الروس والأوروبيين حيث من المعروف تاريخيًا أن الأوروبيين يخشون الماكينة العسكرية الروسية التي وحتى وقت قريب قامت بقضم شبه جزيرة القرم واحتلت جيورجيا في فترة 24 ساعة. وقد تترجم سوء العلاقة والحذر القائم بأزمة غاز حين قامت روسيا بقطع الغاز عن أوروبا بسبب الخلاف بين الروس والأوكرانيين على سعر الغاز. وبما أن أنابيب الغاز التي تزوّد أوروبا بالغاز تعبر في أوكرانيا، قامت روسيا بقطع الغاز عن أوروبا في أوج فصل الشتاء (أزمات الأعوام 2005، 2007 و2008 بين روسيا وأوركانيا).
إذا بدأ الأوروبيون البحث عن مصادر غاز أخرى تسمح لهم بتعويض 120 مليار متر مكعب من غاز الشمال وتخفيف التعلّق بالغاز الروسي. وفي المقابل أخذت الدول المُنتجة للغاز حربا ضروسا فيما بينها لغزو هذا السوق واشتدّت المنافسة إلى درجة أصبحت معها الحرب علنية وتتمثّل بروسيا كقطب أساسي والولايات المُتحدة الأميركية ودول أخرى برعاية أميركية.
ومن الطبيعي أن يُحاول الروس حصد حصة أكبر في هذا السوق، من هذا المُنطلق قامت روسيا بخطوة استباقية بعد مشاورات ومفاوضات مع ألمانيا بطرح مشروع اسمه North-Stream 2 يهدف إلى إنشاء أنبوب غاز يصل روسيا بألمانيا عبر بحر البلطيق. وبحسب التصميم، تبلغ سعة هذا الأنبوب 55 مليار متر مُكعّب بكلفة مُقدّرة بـ 8 مليار يورو مع خلق وظائف تصل إلى أكثر من 31000 وظيفة! وبالتالي تمّ إنشاء شركة ألمانية – روسية مُشتركة لإتمام هذا المشروع بنجاح على رغم الاعتراضات التي ظهرت من كل الجهات وعلى رأسها دول أوروبا الشرقية (أوكرانيا، بولندا…) بحجّة أن المشروع الجديد سيحرمها من الأتوات الناتجة من مرور الأنبوب فيها. وتُساهم في هذا المشروع خمس شركات أوروبية هي: Engie، Shell، Uniper، Wintershall، و OMW بسقف مالي يوازي 1
ولكن الاعتراض الذي يُشكّل العائق الأكبر أتى من الولايات المُتحدة الأميركية التي قامت باعتماد قانون في 15 تموز 2017، يفرض عقوبات على كل شركة أميركية أو أوروبية أو من أي جنسية أخرى تُشارك أو تُموّل هذا المشروع. وهذا القانون يستهدف بشكل خاص الشركات الأوروبية الخمس التي تمُوّل المشروع. وأخذت التهديدات الأميركية أبعادا أكبر مع اتهام الرئيس الأميركي دونالد ترامب لألمانيا بأنها تتجه إلى التعلق بشكل كلّي بالغاز الروسي. هذا الأمر يعكس مدى أهمية السوق الأوروبي بالنسبة إلى الغاز الأميركي والذي أصبحت من خلاله الولايات المُتحدة الأميركية المُنتج الأول في العالم أمام روسيا التي تحتلّ المركز الثاني. وإذا كان احتمال استيراد الغاز الأميركي مُمكناً تقنيا، إلا أن المُشكلة الأساسية تبقى بالنسبة للأوروبيين في الكلفة العالية للغاز الأميركي نظرا إلى البعد الجغرافي بين الولايات المُتحدة الأميركية وأوروبا.
دوافع الاعتراض الأميركي على هذا المشروع هي اقتصادية بامتياز، لكنها ليست الوحيدة، فهناك عوامل جيوسياسية تتمثّل بحرمان بولندا وأوكرانيا من مداخيل مما سيجعل هاتين الدولتين رهينة روسيا!
المنافسة اللبنانية – الإسرائيلية
من البديهي القول ان القرب الجغرافي للبنان من السوق الأوروبي وحجم الثروة الغازية اللبنانية القابعة في البحر، يجعلان من لبنان مصدراً جدّياً للأوروبيين حيث يُمكن للسوق الأوروبي استيعاب كل الإنتاج اللبناني المُستقبلي من الغاز.
وقد يقول البعض ان لبنان هو منافس لروسيا، إلا أن وجود شركات روسية لاستخراج الغاز اللبناني يجعل من روسيا شريكا في هذا الغاز وستكون لها حكماً كلمة في حجم الإنتاج اللبناني من الغاز. لذا وباعتقادنا، روسيا ليست بالمنافس الرئيسي للبنان بل العدو الإسرائيلي.
الدولة العبرية تسبق لبنان بعدة خطوات حيث استطاعات البدء باستخراج الغاز من البحر في حين أن لبنان لم يبدأ بعد مرحلة التنقيب. لكن الدوّلة العبرية تُواجه مُشكلة لبنان نفسها في ما يخص تصدير غازها إلى أوروبا حيث يبرز أمامها خياران: الأول تسييل الغاز وتصدير عبر بواخر وهو ما يزيد الكلفة والثاني تصدير هذا الغاز عبر أنبوب بحري.
أيضًا تواجه إسرائيل مُشكلة الاستثمارات في حقول الغاز حيث وبعد مضي 10 سنوات على بدء التنقيب عن الغاز في البحر، لم تستطع إسرائيل استثمار أكثر من 4 مليار دولار أميركي كما أنها لم تستطع إقناع شركات عالمية بالاستثمار في هذه الحقول نظرا إلى أن هذه الشركات تخشى نيران حزب الله وبالتالي رفضت العديد من الشركات المُشاركة في المناقصات التي قامت بها الحكومة الإسرائيلية.
وقد قامت إسرائيل بمُشاورات مع تركيا لتمرير أنبوب غاز من حقل ليفياثان إلى أقرب نقطة في تركيا بطول 450 كم ويكون تمويله بين إسرائيل، تركيا، والاتحاد الأوروبي. لكن هذا الأمر لم ينجح نظرا إلى إعادة التموضع التركي وبالتالي سقط هذا المشروع (أقلّه مؤقتًا).
الأزمة الحالية التي يواجهها لبنان في ما يخصّ تشكيل الحكومة تحملّ في طيّاتها الصراع الروسي -الأميركي على الغاز ولكن أيضا الصراع اللبناني الإسرائيلي. وبالتالي يُمكن القول ان أي حلّ على الصعيد الحكومي يعني اتفاقاً أميركياً روسياً على الخطوط المُستقبلية العريضة للثروة الغازية في شرق البحر الأبيض المُتوسط.
ويبقى القول ان الخلاف على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية نابع من مبدأ أن الطبقة الجيولوجية الممُتدة من حقل كرديش إلى البلوك رقم 8، و9 هي طبقة مُشتركة وهي تحوي على كمّيات كبيرة من الغاز تُثير شهية العدو الإسرائيلي الذي يُطالب بترسيم الحدود البحرية بشروطه.
الفساد والثروة الغازية
الفساد المُستشري في لبنان والمحمي بالمحاصصة الحزبية المذهبية البغيضة، يطرح وجود مخاطر جدّية على الثروة النفطية لا تقلّ عن مطامع العدو الإسرائيلي. فالفساد عبث بكل مقومات الدولة اللبنانية ولم يستثن أي قطاع أو مؤسسة أو وزارة، وبالتالي لم يستطع لبنان إنشاء ماكينة اقتصادية قادرة على تأمين الوظائف للشباب، لا بل على العكس أصبح لبنان يعتمد بشكل أساسي على الريع مع استيراد بعشرات مليارات الدولار سنويًا ودين عام يُقارب الـ 90 مليار دولار أميركي، وها هو اليوم (أي لبنان) يمرّ في أحلك الظروف الإقتصادية والمالية. لذا نعتبر أن الخوف على الثروة النفطية من الفساد هو أمر مُبرّر ويتوجّب مواجهته.
الاحتجاجات التي انطلقت في 17 تشرين الأول 2019 هي احتجاجات ضدّ الفساد الذي حرم اللبناني أبسط الخدمات العامة والوظائف التي تؤمّن العيش الكريم. وبالتالي نرى في هذه الاحتجاجات نقطة انطلاق جديدة في ما يخص الثروة النفطية في لبنان من ناحية أن الحوكمة الرشيدة لهذا الملف أصبحت إلزامية.
فإنشاء صندوق سيادي يحوي على كل إيرادات الغاز والنفط المُستخرج، اعتماد الشفافية المُطلقة في عمليات التنقيب والاستخراج، وضع خطّة واضحة عنوانها النفط للإنماء… أصبحت أمور ضرورية لمنع المحاصصة من الوصول إلى هذه الثروة وبالتالي الاستفادة منها كما تنصّ عليها المعايير الدولية.