Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

إستمرار الأزمة الحالية يُنّذر بكارثة.. والتاريخ لن يُسامح

إجراءات ضرورية لمنع الإنهيار وأوّلها تشكيل الحكومة

الديار | بروفسور جاسم عجاقة

توقيت زيارة بعثة البنك الدوّلي إلى فخامة رئيس الجمهورية البارحة ليس بريئة، فقد حمل الوفد تحذيرًا جدّيًا فيما يخصّ الوضع الإقتصادي، المال. وحتى النقدّي. بيان البنك الدوّلي قال أن الوفد أبلغ رئيس الجمهورية أن “الوضع في لبنان يصبح أكثر خطورة مع مرور الوقت وتحقيق التعافي ينطوي على تحديات أكبر” داعيًا إلى “تشكيل حكومة سريعاً لتلبي توقعات جميع اللبنانيين”. وتوقّع البنك الدوّلي إنكماشًا في العام 2019 بنسبة 0.

الجدير ذكره أننا كنّا أوّل من توقّع في مقال نشرناه في جريدة الديار بتاريخ 4 تشرين الثاني 2019، إنكماشًا بنسبة 0.

الواقع اليوم أكثر خطورة مما يتمّ تناقله في الإعلام خصوصًا على صعيد مالية الدوّلة. الأنظار مُسلّطة على المصارف اللبنانية وعلى الليرة اللبنانية، إلا أن الخطر هو من المالية العامّة التي عانت خلال هذا العام من أصعب الظروف والتي يُمّكن إعتبارها الأسوء على الإطلاق!

تسعة أشهر لتشكيل الحكومة من أيار 2018 إلى كانون الثاني 2019، وأربعون يومًا شللّ على إثر أحداث قبرشمون، وأكثر من عشرون يومًا على الإحتجاجات الشعبية وما واكبها من شللّ في الحياة الإقتصادية، أضف إلى ذلك أربعة أشهر خلال مناقشة موازنة العام 2019 والتي إتسّمت بصراع سياسي طاحن ألقى بظلاله على المالية العامّة. كلها أحداث مرّت على لبنان وأدّت إلى ضرب المالية العامّة بشكلٍ كبير بحسب توقّعاتنا، وسيكون من المُستحيل على الحكومة الإلتزام بعجز بنسبة 7.5

الأخبار المُتداولة عن إنهيار المصارف اللبنانية والليرة اللبنانية، تدخل في نطاق الإستخدام السياسي الذي يُمّعن البعض في إستغلاله ولو على حساب الكيان اللبناني (جهل ما بعده جهل!). إلا أن هذا الأمر لا يعني أن لا ضغوطات على القطاع المصرفي وعلى الليرة اللبنانية، لا بل على العكس لم يكنّ يومًا الضغط مثل ما هو حاليًا.

القطاع المصرفي اللبناني وحتّى الساعة يتمتّع بملاءة كبيرة. وأتى تعميم مصرف لبنان الأخير والذي يطلب فيه من المصارف زيادة رأسمالها 2

العديد من التجار الذين يستوردون بضائعهم من الخارج، يقومون بدفع ثمنها بالدولار الأميركي نقدًا! هذا الأمر مُنافي لكل قواعد اللعبة الإقتصادية لأن الأرقام كبيرة جدًا ولأنه في علم الإقتصاد هناك إحتمال من إثنين: إمّا هناك تهرّب ضريبي أو أن البضائع المُستوردة هي بضائع مُهرّبة. من هذا المُنطلق، لا يُمكن للمصرف التجاري معرفة إذا ما كان التاجر يأخذ الكاش بالدولار لدفع ثمن البضائع أو للتجارة بالدولار. من هنا أتت القيود على الكاش بهذا الهدف.

أيضًا من الفوائد للقيود على الكاش بالدولار، خفض الإستيراد (خصوصًا البضائع المُهرّبة) والذي يزيد بشكل غير مسبوق عجز الميزان التجاري وبالتالي عجز ميزان المدّفوعات والذي يتمّ تغطيته من إحتياطات مصرف لبنان. في الواقع التوفير الحاصل في ميزان المدّفوعات (إستيراد غير شرعي)، سيُستخدم لدفع فواتير الإستيراد الشرعي وخصوصًا إستيراد الدوّلة اللبنانية من المحروقات.

على صعيد الليرة اللبنانية، لا يزال الهجوم المُمنهج عليها يزرع الخوف في نفوس المواطنين الذي يعمدون بسبب هذه المخاوف إلى محاولة التخلّص من العملة الوطنية والإستحصال على الدولار الأميركي. هذا الأمر هو الأخطر لأن تأثير الشائعات التي يُطلقها بعض المأجورين تزيد من الضغوط على الليرة وتؤدّي إلى إنهيارها إذا ما إنكبّ كل المواطنين على تحويل أموالهم إلى دولار أميركي! في الواقع هذا الأمر هو الأسوء بتاريخ الليرة اللبنانية، وللأسف لا تطبيق للقوانين لمنع المأجورين من بث سمومهم في السوق.

خطورة الوضع المالي حقيقية ولا يُمكن نفيها وهي بالتالي عنّصر خطر على البيئة المصرفية وعلى الليرة اللبنانية. وإستمرار الأزمة الحالية سيؤدّي إلى السيناريو التالي:

أولًا – عجز الدوّلة عن دفع مستحقاتها مما يعني أن مصرف لبنان سيستخدم إحتياطاته المُكوّنة للدفاع عن الليرة اللبنانية، لسدّ مستحقات الدوّلة؛

ثانيًا – ستعمد وكالتي فيتش وستآندارد آند بورز إلى تخفيض تصنيف لبنان في أخر هذا العام بعد أن سبقتهما وكالة موديز أول من أمس؛

ثالثًا – هذا الخفض سيزيد من كلفة الدين العام بشكل كبير ستعجزّ الدوّلة حكمًا عن تغطيته مما يعني حرق إضافي لإحتياطات مصرف لبنان؛

رابعًا – الحرق الإضافي لإحتياطات مصرف لبنان سيؤدّي إلى ضغوطات كبيرة على الليرة اللبنانية مما سيُلزم مصرف لبنان أمر من إثنين: التخلّي عن تثبيت سعر صرف الليرة (كارثة إجتماعية) أو فرض قيود قاسية على رؤوس الأموال (كارثة على المصارف والمودعين)؛

خامسًا – هذا الأمر سيؤدّي في النهاية إلى طلب لبنان إعادة هيكلة ديونه أي وضعه تحت وصاية صندوق النقد الدوّلي وما لذلك من تداعيات إجتماعية سيلعن من بعدها اللبناني الساعة التي إنتخب فيها زعماءه.

تفادي هذا السيناريو ممكن بإتباع الخطوات التالية:

أولًا – تشكيل حكومة سريعًا (بظرف أسبوع)، تكون مهمّتها مواكبة مجلس النواب في إقرار موازنة العام 2020 كما وتطبيق الإصلاحات التي أقرّتها حكومة تصريف الأعمال قبل إستقالتها؛

ثانيًا – أخذ إجراءات سريعة لإمتصاص الضرر الذي خلّفته الأحداث الأخيرة على الصعيدين المالي والإقتصادي. وعلى رأس هذه الإجراءات: وضع كتيبة من 100 عنصر من الجيش اللبناني على مرفأ بيروت، إلغاء كل إعتمادات مؤسسة كهرباء لبنان وتشريكها مع القطاع الخاص، إعادة وضع بدل إشغال للأملاك البحرية والنهرية وسكك الحديد بما يعكس الواقع، ملاحقة التهرّب الضريبي من خلال أوراق بانما ومن خلال سويسليك، إلغاء كل المؤسسات والوزارات والمجالس والصناديق التي لا لزوم لها، التخلّي عن العديد من المباني المُستأجرة في بيروت لصالح مباني خارج العاصمة…

ثالثًا – الإسراع في تطبيق إصلاحات مؤتمر سيدر لكي يتمّ تحرير أموال مؤتمر سيدر والبدء بتنفيذ المشاريع؛

رابعًا – التواصل مع عدد من العواصم الخليجية بهدف طلب المساعدة من خلال ودائع في المصرف المركزي؛

خامسًا – بدء العمل على تحرير الإقتصاد من كل القيود القانونية والإدارية (مثل الإحتكارات…) وتحفيز الإستثمارات وتشجيع التوظيف…

في الواقع إن هذه الخطوات هي الخطوات الوحيدة التي يُمكنها أن توقف الإنهيار وعدم تطبيقها تتحمّل تداعياته القوى السياسية مُجتمعة. إن التاريخ لن يرحم المسؤولين إذا ما تمّ ترك الوضع كما هو عليه لأننا بدون أدّنى شكّ ذاهبون إلا الهلاك!

Print Friendly, PDF & Email