Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

دولة “الرفاهية” التائهة في فنّ السياسة “اليدوية”

عندما تعبث السياسة في الإقتصاد.. هكذا تُصبح النتيجة

الديار | بروفسور جاسم عجاقة

“الحريّة” و”العدالة في توزيع الثروات” هما الأسسّ في دوّلة الرفاهية (Welfare State). هذا ما نصّت عليه المبادئ الأساسية للإقتصاد السياسي الذي كتبه الباحث الإقتصادي جون ستيوارت ميل في العام 1849!

من المعلوم أن الأزمة الإقتصادية التي عصفت بالعالم في العام 1929، دفعت إلى تدخلّ الحكومات من أجل تنظيم الآليات الإقتصادية أي أن يكون هناك سياسات إقتصادية وإجتماعية. وهنا أظهر العديد من الباحثين أننا أمام معضلة بين الليبيرالية الإقتصادية وتدخلّ الدول في الإقتصاد. وهذا الأمر قامت به حكومات مُعظم الدوّل ذات التوجّه الإقتصادي الحرّ مما جعلها تتطوّر إجتماعيًا وإقتصاديًا. أمّا في لبنان، فقد أدّى الإنقسام السياسي الذي يعيش اللبنانيون منذ الإستقلال وحتى يومنا هذا، إلى منع وجود سياسات إقتصادية وإجتماعية على الرغم من وجود عشرات الألوف من الصفحات التي تصف السياسات الواجب القيام بها.

تاريخ لبنان الحديث منذ الإستقلال وحتى يومّنا هذا أظهر أن السياسة لعبت دورًا سلبيًا على الصعيد الإقتصادي والإجتماعي والإداري بإستثناء فترة الرئيس فؤاد شهاب من 1958 إلى 1964 حيث ساعده وجود المكتب الثاني بفرض هيبة الدوّلة وبالتالي فرض الإصلاحات إدارية وسياسية وإجتماعية.

غياب الثقة بين مكونات الشعب اللبناني جعل من إختلاف الإنتماء الديني، عنصر أساسي لتفشّي الفساد والمحسوبيات مدعومة بتدخّل خارجي كبير في الحياة السياسية. وأتت الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان في سبعينات وثمانينات القرن الماضي لتزيد من غياب الثقة وأصبح الإنتماء الديني والحزبي يفوق الإنتماء للوطن. ولم تنجح السياسة في الخروج من هذا الواقع بعد إنتهاء الحرب، بل على العكس تمّ قوننة هذا الإختلاف من خلال المحاصصات السياسية التي أصبحت أعراف لها قوّة أكبر من القانون (!!) بحكم أن عدم إحترامها يعني ضرب السلم الأهلي في حين أن هناك أكثر من 50 قانونًا في الدوّلة اللبنانية غير مُطبّقين.

نعم فشلت السياسة “اليدوية” (حتى لا نستخدم تعبير أخر) في خلق “دولة الرفاهية” التي طالب بها جون ستيوارت ميل. ويُمكن القول أن هذه السياسة شرّعت الفساد الذي لعب دوّرًا سلبيًا كبيرًا إلى حدّ وصول لبنان إلى حالة من الزعزعة المالية التي تُهدّد الأمن الإجتماعي.

∎ مركز القرار وفصل السلطات ∎

هناك عدد من مراكز القرار في الإقتصاد (الأسر، الشركات، الحكومة، الديانات…) وكلها تصبّ في منطق “مصالح المجموعات” مما يعني أنها قد تتفق أو تتضارب فيما بينها. حتى داخل المجموعة الواحدة، هناك تضارب على مثال تضارب القوانين داخل الدوّلة.

فصل السلطات هو معضلة نشأت مع نشأة الكون حيث أنه من جهة هناك أقليّة تتمتع بالثروة والسلطة، ومن جهة أخرى هناك الأخرين الذي يُعانون في المجتمع ويُطالبون السلطة أن تأخذ بعين الإعتبار وضعهم الإقتصادي والإجتماعي. وقد طرح المُفكّر جون لوك في كتابه “مُعاهدة الحكم المدني” (1690) العلاقة بين المصالح، والأفضلية وصنع القوانين. و”يتعمّلق” لوك بالقول “لا وجود للحرية إذا لم يتم فصل سلطة القضاء عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية”.

بعض الإنتقادات التي تمّ توجيهها للنظام الشيوعي في الإتحاد السوفياتي، نصّت على أن الدوما بحد ذاتها كان تُشكّل طبقة إجتماعية تتمتّع بمخصصات لم يكن عامة الشعب يتمتعون بها. من هذا المُنطلق، نرى أن الحاكم يتصرّف أكثر من منطلق “المالك” ويستخدم صلاحياته خدمة لمصالحه في الدرجة الأولى!

هذا الواقع خلق نموذج “مُشوّه” من فصل السلطات التي تدّعيها القوى السياسية الحاكمة حيث أصبح فصل السلطات يعني “توزيع بسيط للمهام داخل القوى السياسية نفسها” مع إلزام السلطة القضائية تنفيذ القرارات السياسية (مارسيل مونان – 2016).

∎ أزمة حكم؟ ∎

من أهمّ أسباب تردّي الوضع الإقتصادي والإجتماعي في لبنان هو غياب عدالة توزيع الثروات. فمعرفة أن 6

يقول جون ستيوارت ميل في كتابه إن إعتبار الإقتصاد من العلوم القاسية (Sciences dures) هو أمر صحيح من ناحية تطبيق المعادلات الحسابية في ما يخص الإنتاج والإستهلاك والإستثمار وغيرها. لكن يرفض إعتبار الإقتصاد من العلوم القاسية في ما يخصّ توزيع نتاج العمل (أي الثروات) ويعتبر أنها تنبع من العلوم الإنسانية، أي بمعنى أخر لا منطق في توزيع الثروات إلا المنطق الإنساني. هذا الأمر فسّرته الإقتصادات المُتطوّرة ذات الصبغة الإجتماعية على أنه توزيع للثروات كلٌ بحسب مساهمته في الإقتصاد مع إلزامية منع الإحتكار وخلق فرص عمل لكل مواطن.

بالطبع النظام الإقتصادي في لبنان هو إقتصاد حرّ ليبيرالي، إلا أن هذا الإقتصاد يشوبه علّتين الأولى تتمثل بالإحتكار والثانية الفساد. من هذا المُنطلق تحوّل الإقتصاد اللبناني إلى إقتصاد إقطاعي يأخذ فيه الإقطاعي القسم الأكبر ويترك الفتات للأخرين. وتزيد ثروات الإقطاعيين بحسب الإتفاق السياسي القائم بين أصحاب النفوذ الذين وبحسب النظرية يعملون على مصالحهم بالدرجة الأولى!

يستند مفهوم الكائن البشري كفرد على حساب عقلاني للمصالح والتعليم الذي يجعل من الممكن تحسين تنمية الطبيعة البشرية العقلانية والحسابية. هذا ما نصّت عليه فرضيات نموذجية قام بها العديد من الباحثين (جايمس ميل، جريبمي بنتام…). هذا الأمر يعني أن العقل الإنساني قادر على حلّ أي مشكلة سواء كانت نظرية أو عملية (سياسية أو قانونية أو إقتصادية) وبالتالي تفتح الباب أمام مشروع إصلاحي لهذه المشاكل. وهنا نتساءل: أين نحن في لبنان من هذه المنهجية؟ بالطبع الجواب واضح: المصالح الخاصة تفوق المصلحة العامة وبالتالي الأزمة التي نعيشها هي أزمة حكم والحلّ يبدأ من هناك.

يقول ميل، أن “الدستور الديمقراطي، الذي لا تدعمه المؤسسات الديمقراطية بالتفاصيل، ويقتصر على الحكومة المركزية، ليس فقط نظام فيه غياب للحرية السياسية بل هو نظام يخلق في كثير من الأحيان نتائج مُعاكسة للديموقراطية!”.

في فلسفة جون ستيوارت ميل، للفرد أهمّية أعلى من أهمّية الدوّلة، وهذا يفرض على هذا الفرد التصرّف من منطلق المصلحة العامّة مما يعني الحدّ من تدخل الدوّلة في اللعبة الإقتصادية. هذه الرغبة من الحدّ من تدخلّ الدوّلة نابعة من عجز السياسة على الإهتمام بالواقع الإجتماعي للفرد ونظرًا إلى المصالح الخاصة للطبقة الحاكمة.

بالتوازي مع مسؤولية الفرد، هناك مبدأ التنافسية حيث يتوجّب على الدوّلة أن تضمّن هذا المبدأ من خلال القوانين ولكن أيضًا من خلال التطبيق. وتبرير هذه المبدأ نابع من منطلق أن ضمان العدالة الإجتماعية وتوزيع الثروات، يمرّ إلزاميًا من خلال ضمانة قيام الفرد بالإبداع وبتطبيق أفكاره ضمن إحترام القوانين العامّة. بالطبع، الإحتكارات في لبنان تمّنع تطوّر المجتمع وتُركّز الثروات في فئة مُعيّنة عادة قريبة من السلطة السياسية.

يبقى القول، أنه في ظّل هيمنة المصالح الإقتصادية على أصحاب القرار في الدوّلة، من الصعب جدًا على السلطة السياسية أخذ قرارات في الإتجاه الذي يخدم المصلحة العامّة. هذا الأمر عالجه العديد من الباحثين الذي يُشدّدون على كسر هذه الهيمنة من أجل قرارات تصبّ في صالح المجتمع والفرد. ومن الإجراءات المُقترحة، نزع القرار الإقتصادي من يدّ السلطة السياسية ووضعه في يدّ الإدارة العامّة العليا مع التأكيد على دفع أجور مرتفعة لهذه الفئة تمّنع رشوتهم مع إلزامية إبراز مصادر ثروتهم للرأي العام في كل وقت. أيضًا يقترح الباحثون آلية قانونية لإبطال أي قرار فيه تضارب للمصالح. بالطبع كل هذا لا يُمكن أن يكون إلا من خلال وعي المواطن ومحاسبة ممثليه في الإنتخابات النيابية والبلدية.

لا يختلف إثنين على أن الوضع الإقتصادي والمالي والإجتماعي الحالي في لبنان هو نتاج غياب كلّي للسياسات الإقتصادية والإجتماعية وتفشّي الفساد. وإذا كان من المفروض على المواطن محاسبة مُمثّليه في الإنتخابات (النيابية والبلدية)، إلا أننا نرى أن المواطن اللبناني يعيش في حالة تُسمّى “الضفضدعة المغلية” في علم الإجتماع حيث تُستخدم هذه العبارة لوصف الشعوب التي لا تنتفض على السلطة السياسية نتيجة أدائها الإجتماعي والإقتصادي السيء.

Print Friendly, PDF & Email
Source الديار الجريدة