Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

عقوبات أميركية وشحّ بالدولار.. إلى أين يذهب لبنان؟

التلكؤ في تطبيق الاصلاحات يزيد من المخاطر الائتمانية

الديار | بروفسور جاسم عجاقة

كان من المتوقّع بعد عودة الرئيس الحريري من زيارته إلى باريس أن تزيد وتيرة الإجتماعات الحكومية لدراسة مشروع موازنة العام 2020. إلا أن أجندات المسؤولين حالت دون ذلك وبالتالي تبقى وتيرة إجتماعات الحكومة منخفضة نسبيًا (إجتماع إلى إثنين في الإسبوع) نظرًا للتحدّيات التي تنتظر لبنان.

المشهد الداخلي زاد تعقيدًا مع التطوّرات الخارجية خصوصًا بعد زيارة الحريري إلى باريس والتي سمع فيها كلامًا صارمًا من قبل الرئيس الفرنسي الذي حدّد عددًا من النقاط الواجب القيام بها من أخذ موقف رسمي من قيام حزب الله بالحرب مع إسرائيل، تنفيذ خطّة الكهرباء، تطبيق حرفي لموازنة 2019، والتسريع في إقرار موازنة 2020.

ولم تأت العقوبات الأميركية الأخيرة على مصرف جمّال تراست بنك ولا زيارة نائب وزير الخزانة الأميركية الأخيرة إلى لبنان لتُخّفف من تعقيدات المشهد السياسي، بل على العكس زادت الأمور تعقيدًا مع بدء حزب الله مطالبة الحكومة بأخذ موقف رسمي من العقوبات الأميركية ووقف تعاون المصارف معها. وإذا كان حزب الله يعي إستحالة عدم تطبيق العقوبات للمصارف اللبنانية نظرًا إلى التداعيات الكارثية عليها، يأتي ضغط الحزب على الحكومة ليطرح السؤال عن قدرة الحكومة على القيام بإصلاحات في ظل الضغط الخارجي والضغط الداخلي؟

بالتزامن، يعيش السوق اللبناني في حالة من الهلع نتيجة التهافت على الدولار الأميركي والذي أدّى إلى تداعيات على المواطنين، التجار والشركات. هذه التداعيات لم تظّلم فعليًا إلا شريحة قليلة من اللبنانيين.

} شح الدولار وجشع البعض }

بعض مواقف السيارات ودور الحضانة وتُجّار الخضار والجامعات… أصبحوا يُسعّرون السلع والخدمات بالدولار الأميركي وذلك خلافًا لما نصّ عليه المرسوم الإشتراعي 73/83 والذي ألزم التجّار وضع الأسعار بشكلٍ واضح بالليرة اللبنانية. هل يستطيع صاحب الموقف تبرير تسعير بدل الوقوف بالدولار الأميركي؟ وماذا نقول عن دور الحضانة، هل يُعقل أن بدل وضع طفل في حضانة أصبح يتعلّق بسعر الدولار الأميركي؟ وكيف يُمكن تبرير أن سعر كيلو البندورة أصبح بالدولار؟

المواطن العادي الذي يستفيد من هذه الخدمات، أصبح مُلزمًا شراء الدولار لدفع بدل هذه السلع والخدمات. إلا أن المصارف ترى أن وتيرة الطلب على الدولار إرتفعت بشكلٍ غير مسبوق لدرجة أن تعبئة صراف آلي بالدولار الأميركي أصبح لا يكفي إلا لنصف ساعة في حين أنه كان يكفي لأيام قبل إفتعال هذه الأزمة! إذًا ما الذي حصل حتى إرتفع الطلب على الدولار الأميركي؟

في بداية الأزمة، كانت المصارف تُلبّي حاجة السوق بشكل طبيعي، إلا أن إزدياد الطلب على الدولار جعلها تبحث في الأسباب. بعض الزبائن الذي يذهبون للحصول على دولارات من المصارف وعند سؤالهم عن سبب طلب الدولار، يقولون لدفع فاتورة أو بدل خدّمة. إلا أن تصرّفات هؤلاء الزبائن تُثير الريبة من خلال المبالغ المُرتفعة أحيانًا ولكن أيضًا من خلال وتيرة السحب التي إزدادت بشكل غير مسبوق. الجدير ذكره أن مُعظم هؤلاء يحوّلون الليرة إلى دولار ومن ثمّ يعمدون إلى سحب الدولار من المصرف.

أكثر من 2.5 مليار من الدولارات الأميركية مُكدّسة في المنازل والشركات وهذا الأمر أتى نتاج فترة التهويل التي واكبت تصنيف لبنان الإئتماني في أواخر شهر آب 2019. أيضًا أخذ البعض بسحب الدولارات بهدف التجارة بها حيث أن إحدى الحالات التي رصدها أحد المصارف طالت شابًا لبنانيًا له حساب في المصرف، وكان هذا الشاب يأتي كل يومّ إلى المصرف لتحويل مبلغ 3 ملايين ليرة لبنانية إلى دولارات أميركية ويقوم بعدها بسحب المبلغ ليُعاود في اليوم الثاني لإيداع مبلغ بالليرة اللبنانية في حسابه وتكرار العملية! بالطبع مداخيل الشاب، لا تُبرّر حاجته إلى سحب هذا المبلغ ولا طبيعة عمله تبرّر حاجته إلى الدولارات أللهم إلا للتجارة بهذه الدولارات التي كان يشتريها بـ 1517 ويُعيد بيعها بسعر أعلى ويُحقق أرباحًا من خلالها. أيضًا عمد بعض التجار إلى تسعير سلعهم وخدماتهم بالدولار الأميركي بهدف الحصول على الدولار إن للتجارة به أو للإحتفاظ به في خزينته.

المصارف وعند فهمها ما يحصل عمدت إلى لجم العمليات عبر رفضها تلبية المطالب المُبالغ فيها. وهذا الأمر دفع بـ«تجّار العمّلة الجدد» إلى اللجوء إلى الصرافين لشراء الدولار مما رفع الأسعار بشكل علت معه صرخة المواطن الصادق الذي يُريد دفع بطاقات التعبئة للتلفونات أو دفع فاتورة التلفون أو أي فاتورة أخرى مُسعّرة بالدولار.

} التهرّب الضريبي }

بعض التجّار علّوا من صرختهم وقالوا أنهم بدأوا يخسرون نتيجة عدمّ توفر الدوّلار. البعض منهم مُحقّ، إلا أن البعض الأخر غير مُحقّ أبدًا خصوصًا أنهم يرفضون إستخدام النظام المصرفي لدفع الفواتير وذلك تفاديًا لضبط تهرّبهم الضريبي. فالمعروف عالميًا (حالة فرنسا والولايات المتحدة الأميركية) أن التاجر الذي يتعامل بالنقد، لا يُصرّح بكل عملياته تفاديًا لدفع الضرائب. لذا ومع التعميم الذي أصدره حاكم مصرف لبنان والذي يُلزم المصارف أن تطلب من الشركات نسخة عن التصريح الضريبي الرسمي لمطابقته مع الأرباح الحقيقية، أصبح التاجر يتعمّد عدم إستخدام أدوات الدفع المصرفية ويُشدّد على الكاش وبالتحديد الدولار الأميركي.

هذا الأمر لا ينطبق على كل التجّار حيث أن البعض ممن يمتلك حسابات بالليرة اللبنانية ويُعطون شيكات بالدولار الأميركي، تمّ رفض شيكاتهم من قبل المصرف. والسبب يعود إلى أن المُستفيد من الشيكات يُريد في مُعظم الأحيان سحب الدولارات نقدًا.

إضافة إلى كل ذلك، دأب بعض المتواطئين من موظّفي بعض المصارف إلى رفض عمليات التحويل من ليرة إلى دولار للزبائن ليس لسببٍ وجيه إلا إرسالهم إلى صرّاف يبيعهم الدولار بسعر عالٍ ويحفظّ حصّة للموظّف المتواطئ!

على كل القضاء وضع يده على الملف وتمّ التحقيق مع العشرات بطلب من لجنة الرقابة على المصارف التي هي السلطة الرقابية على الصرافين الشرعيين (أي الذي يملكون رخصة من مصرف لبنان). أما الصرافون غير المرخصّين فهم يخضعون لسلطة حماية المُستهلك في وزارة الإقتصاد والتجارة عملا بالمرسوم الإشتراعي 73/83.

وكأن هذا لا يكفي عمدّ بعض المصطادين في الماء العكرة إلى بث إشاعات (خبيثة) على مواقع التواصل الإجتماعي عن قرب إنهيار الليرة وإفلاس الدوّلة لأن مصرف لبنان لم يعد يمتلك دولارات. وإستفحلوا في بث الأكاذيب عبر نشر معلومات عن إفلاس أحد المصارف الكبيرة ووضع مصارف على لائحة العقوبات! وهنا تتحمّل الحكومة اللبنانية المسؤولية كاملة لأن القانون أعطاها المادتين 319 و320 من قانون العقوبات والذي يُجرّم كل من يبث أكاذيب تطال الليرة، سندات الخزينة والأوراق المالية الصادرة عن الدوّلة. هل يُمكن للحكومة أن تبرّر للمواطن عدم تطبيق هاتين المادتين؟

حتى تاريخ البارحة كانت المصارف (بنك عودة، فرنسبك والإعتماد اللبناني) تبيع الدولار على سعر 1517 ليرة لبنانية (نمتلك نسخة عن وصولات العمليات). وهذا الأمر يؤكّد ما صرّح به حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن لا أزمة دولار في الأسواق. سلامة كان قد صّرح أن مصرف لبنان سيُصدر آلية لتمويل إستيراد المحروقات، القمح والأدوية بالدولار الأميركي نهار الثلاثاء المقبل. وهذا الأمر يجعلنا نستنتج ما يلي:

أوّلاً- يتمتّع مصرف لبنان بالقدرة الكافية على سدّ حاجة لبنان من الدولار الأميركي؛

ثانيًا- لن تتغيّر المعادلة الجديدة التي فرضها الأمر الواقع، حيث لن يتمّ بعد اليوم سحب الدولارات نقدًا لدفع بدل العمليات التجارية بل سيتمّ ذلك من خلال القنوات المصرفية؛

مما تقدّم نرى أن على مصرف لبنان أن يُحافظ على إحتياطاته من الدولار الأميركي وذلك لأن هدف هذا الإحتياط هو حماية الليرة اللبنانية وعدم المحافظة على إحتياطه يعني أنه تخلّى عن مهامه. لذا لكل من يقول أن مصرف لبنان تخلّى عن دوره، نقول له راجع المادّة 70 من قانون النقد والتسليف ويُمكنك بعدها التكلّم.

} العقوبات الأميركية والإصلاحات وموازنة 2020 }

ورد في بعض وسائل الإعلام أن الولايات المُتحدة الأميركية حذّرت السلطات اللبنانية (التنفيذية والنقدية) أن هناك شبكة تهريب للدولارات إلى سوريا إن مباشرة أو عبر شراء الوقود، وتضمّ بعض أصحاب النفوذ. وقالت أن الولايات المُتحدة حذّرت من تمويل النظام السوري (الذي يرزح تحت العقوبات) بالدولار الأميركي تحت طائلة فرض عقوبات على لبنان.

وتقول هذه المصادر أن الشحّ في الدولار سببه الكمّيات الهائلة التي أخذت طريقها إلى سوريا وبالتالي هي منّ سبب هذا الشح في الأسواق خصوصًا أن سوريا بحاجة إلى دولارات لسدّ بعض الإستحقاقات من ديونها الخارجية. الجدير ذكره، أن المصارف اللبنانية ما زالت تؤمّن نفس كمّية الدولارات التي كانت تؤمّنها قبل الأزمة مما يعني أن هناك طلبا إضافيا قد يكون (وهذه أيضًا فرضية) مُبرّرا بما أوردته وسائل الإعلام.

وكما يقول المثل «لا تكّرهوا شيئًا علّه خيرًا لكم»، شحّ الدولار من الأسواق سيكون له تداعيات على عجز ميزان المدّفوعات بحكمّ أن تقليل خروج الدولار من لبنان إن بقنوات غير تقليدية أو من خلال خفض إستيراد الكماليات.

إلا أن هذا الخير، لا يُقابله خيرًا على الصعيد الحكومي، فالحكومة اللبنانية واقعة اليوم بين مطلبين: الأول دولي يُطالبها بأخذ موقف من حزب الله في الحرب على إسرائيل، والثاني من حزب الله يُطالبها برفض العقوبات الأميركية. هذا الأمر سيُعقّد مسار موازنة العام 2020 بحكم المخاوف من ربط المواضيع الإصلاحية بالمواضيع السياسية كما هي مطالب مؤتمر سيدر التي تفرض عدد من الإجراءات (منها ما هو سياسي) مقابل تحرير أموال سيدر. وإذا قام حزب الله بنفس الأمر، فهنا يُمكن نعيّ الإصلاحات وحتى نعيّ مؤتمر سيدر بالكامل مما سيزيد من المخاطر الإئتمانية وبالتالي قدّ يتمّ تسريع قرار تخفيض تصنيف لبنان الإئتماني.

في جميع الأحوال هناك أسئلة جدّية تُطرح في الكواليس حول إمكانية إستمرار الحكومة بصيغتها الحالية خصوصًا أن المحافل الدوّلية تُطالب بحكومة من دون ثلث مُعطّل. وهذا الأمر قدّ يُصبح حقيقة إذا ما تمّ فرض عقوبات على أحد الوزراء في الحكومة الحالية وهو أمرٌ كَثُرَ الحديث عنه.

Print Friendly, PDF & Email
Source الديار الجريدة