Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

حسابات سياسية تُعرّقل طريق الموازنة وإحتمال حدوث سيناريو السلسلة مُرتفع

الملف النفطي إلى الواجهة من جديد ...والتوقعات تفوق الـ 200 مليار دولار

الديار | بروفسور جاسم عجاقة

عقد مجلس الوزراء جلسة البارحة كان من المفروض أنها الجلسة الختامية في سلسلة إجتماعات مُخصّصة لدرس مشروع موازنة العام 2019 قبل جلسة الإقرار في جلسة سيعقدها المجلس في قصر بعبدا وبعدها يأخذ المشروع طريقه إلى مجلس النواب.

المنهجية التي يتبعها رئيس الحكومة سعد الحريري والتي تنصّ على الإستعانة بالمؤسسات المعنية في كل مرّة هناك نقطة خلاف لم تستطع إمتصاص الخلافات السياسية العميقة بين الأطراف السياسيين حيث أن كلّ نقطة في مشروع الموازنة هي مشروع خلاف سياسي ويتمّ التعاطي معها كذلك. هذه الخلافات تعود أسبابها بالطبع إلى الفترة المحتدمة ما قبل الانتخابات النيابية والتي كرّستها مرحلة تشكيل الحكومة حيث أصبح مشروع موازنة 2019 ساحة لتصفية حسابات وإن لم تكن المواجهة شاملة بين القوى المتصارعة.

الانتخابات الرئاسية (بعد أربعة أعوام) والإنتخابات النيابية (بعد ثلاثة أعوام) أيضًا كانت حاضرة في جلسات مجلس الوزراء المُخصّصة لدراسة الموازنة حتى ولو بشكل مُبطّن. وبالتالي وبإعتراف أحد الوزراء، أن هذا المجلس هو مجلس سياسي مؤلّف من كل القوى السياسية الفاعلة على الأرض وبالتالي فإن معالجة الموازنة لن تكون إقتصادية – مالية بحتّة، بل أن البعد السياسي حاضر في كل قرارات مجلس الوزراء وكل قوّة سياسية تُمارس هذا الحق وبعضها إلى أبعد الحدود.

المُشكّلة ليست في البعد السياسي في قرارات مشروع الموازنة، بل المُشكلة تكمن في عدم إعطاء البعد العلمي الأولوية في القرارات الاقتصادية والمالية وعدم وضعه بمرتبة أعلى من البعد السياسي وهذا ما شهدناه في الجلسات المتتالية حيث أن المزايدات السياسية والمناكفات بين المكونات الحكومية هي أكبر دليل على طغاء الطابع السياسي على الطابع العلمي. وهذا الأمر سيؤدّي حكمًا إلى خلق موازنة محفوفة بالمخاطر نظرًا إلى أن نتائجها المُحقّقة لن تكون بالضرورة النتائج المُتوقّعة.

وإزدياد الخلافات السياسية سيدّفع الحكومة إلى إرسال الكرة إلى ملعب المجلس النيابي الذي له قدّرة أكبر على إمتصاص تداعيات الشارع والإنقسامات السياسية. هذا السيناريو يُذكّرنا بسيناريو سلسلة الرتب والرواتب التي تحوّلت إلى كرة نار أجبرت الحكومة على إرسال المشروع إلى مجلس النواب الذي أقرّها تحت ضغط الشارع. الجدير ذكره أنه وفي كلا الحالتين إنكبّت الحكومة على دراسة مشروع القانون دون تعب وما عدد الجلسات الماراثونية التي عقدتها الحكومة إلا إثبات على ذلك، لكن كما وسبق الذكر دائمًا تأخذ الحسابات السياسية الأولوية في القرارات الاقتصادية والمالية والنتيجة بالطبع ليست مُرضية.

على صعيد الموازنة إطلعت الحكومة البارحة على مشروع قانون الموازنة من قبل وزير المال بعد أن تمّ الأخذ بعين الإعتبار كل التعديلات في البنود التي تمّ الاتفاق عليها. كما بحثت الحكومة مطوّلًا إقتراحات الوزير باسيل على مدى ساعات لم تخلوا من مواجهات بين الوزراء إنتهت بخروج وزير المال غاضبًا من الجلسة. العديد من الأمور تمّ إقرارها مثل خفض بدل النقل من 8000 إلى 6000 ليرة لبنانية، إلزام البلديات التصريح عن الشركات في محيطها، إقفال كل محال القمار بهدف زيادة إيرادات كازينو لبنان… إلا أن فرض رسوم جمركية على الإستيراد لم تُقرّ بحجة أن هناك معاهدات دولية وقّع عليها لبنان، مع العلم أن هذه القوانين تُعطي كل بلد حق وقف العمل بالمعاهدات في حال كان هناك عجز هيكلي في ميزان المدفوعات. بالطبع هذه حال لبنان، لكن لماذا لم تُقرّ الرسوم؟ الجواب في مجلس الوزراء.

وتُشير المعلومات أن عجز الموازنة بعد كل التعديلات قد وصل تقريبًا إلى العجز المنشود أي أقلّ من

بالإجمال يُمكن القول إن مُعظم التدابير التي أخذتها الحكومة بإستثناء البعض منها (مثل زيادة الضريبة على الفائدة على الحسابات المصرفية…) تبقى ضئيلة نسبة إلى ما هو مطلوب فعلًا لهذه الموازنة التي أصبحت هويتها ضائعة بين إصلاحية، تقشفية، أو تجميلية لصالح مؤتمر سيدر.

الموازنات التي أُقرّت في العامين 2017 و2018، تمّ إقرارها على قاعدة الوقت ضيق ويجب إقرار الموازنة بسرعة كبيرة. وبالتالي لم يتمّ الأخذ بعين الإعتبار دقّة الوضع المالي والإقتصادي للدوّلة اللبنانية الذين لم يتغيّرا فعليًا من العام 2017 إلى الساعة إلا من ناحية زيادة التآكل.

على كل الأحوال ما يزال الغموض يلّف مُحتوى مشروع الموازنة من ناحية الأرقام والتدابير التي تمّ إخاذها. وهذا الأمر تمّت ترجمته بإستمرار التحركات الشعبية مع إضراب لموظفي الإدارات العامة البارحة وأساتذة الجامعة اللبنانية الذين يستمرّون بإضرابهم المفتوح، والعسكريون المتقاعدون الذي يستمرون في تحرّكاتهم إضافة إلى دعوة نقيب المعلمين في المدارس الخاصة إلى الإضراب الإثنين القادم. أضف إلى ذلك إعلان القضاة الإستمرار في الإعتكاف حتى الخميس القادم مع توجّه إلى التصعيد على الرغم من بيان مجلس القضاء الأعلى الذي صرّح بأنه تمّ تعديل مشروع قانون الموازنة بما يُمكّن صندوق تعاضد القضاة من المحافظة على الأمان الاجتماعي للقضاة وعائلاتهم.

بالتزامن مع هذه التطوّرات، شكّلت زيارة نائب مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى دايفيد ساتيرفيلد الى لبنان محطة لافتة لما تحمّله من مُعطيات جديدة في ظل رغبة إدارة ترامب حلّ مُشكلة النزاع الحدودي بين لبنان والعدو الإسرائيلي.

المندوب الأميركي عاد حاملًا أجواء إيجابية حيث تقول المعلومات أن الآلية التي إقترحها الرئيس عون وسلّمها رسميًا إلى السفيرة الأميركية لاقت موافقة من الجانب الإسرائيلي وتنصّ على أن تكون المحادثات بواسطة الأمم المُتحدة وبرعاية أميركية بهدف حلّ مُشكلة الحدود البحرية التي تقضم منها إسرائيل ما يوازي 860 كيلومتر مربّع في البلوكات، 8، 9، و10 كما والحدود البرّية حيث يوجد 13 نقطة خلاف على الخطّ الأزرق.

وحدة الموقف اللبناني حول عدم فصل الحدود البريّة عن الحدود البحرية، نابع من أن إسرائيل تستخدم نقطة برية في الناقورة (عليها خلاف) لتحديد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة والتي أدّت إلى قضم إسرائيل للـ 860 كم2.

الملّف النفطّي هو أساسي في هذه العملية، فحجم الغاز الموجود بين المنطقتين الإقتصاديتين التابعتين لكلٍ من لبنان والعدو الإسرائيلي ضخم وبالتالي فإن كلّ كيلومتر مربّع له قيمة هائلة بالنسبة للطرفين.

من جهة العدوّ الإسرائيلي، هناك إستراتيجية (تعود إلى العام 2000) تقوم الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة بتنفيذها وتحوي على شقّين: الأول تحويل الاقتصاد الإسرائيلي إلى إقتصاد يعتمد على الغاز بدلًا من النفط، والثاني تأمين بنية تحتية (إنتاجية ولوجستية) لتصدير الغاز المُستخرج إلى الأسواق الأوروبية.

ومنذ العام 2009، أخذت إسرائيل تتسابق مع الوقت مع رغبتها بأن يكون لها تفوّق إستراتيجي على كافة دوّل الحوض الشرق للبحر الأبيض المُتوسّط في مجال إستخراج الغاز وتصديره.

لكن هذا السباق لم يمّر دون صعوبات تتمثّل بمُشكلتين: الأولى جذب الإستثمارات للإستثمار في أحواض لفيتان وتمار في ظلّ صراع متواصل بين لبنان وإسرائيل وبين الفلسطينيين وإسرائيل. والثانية قضم ما يُمكنها قضّمه من الحدود الجنوبية للمنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان حيث هناك كمّ هائل من الغاز وحيث الطبقات الجيولوجية مُتشابكة. وبالتالي إستفادت من ضعف قانوني في المعاهدة التي وقّعها لبنان مع قبرص حيث تُركت النقطة الثلاثية الأبعاد (أي التي تجمع لبنان بقبرص وإسرائيل) من دون تثبيت وإعتبرت إسرائيل أن النقطة رقم 1 هي النقطة الثلاثية الأبعاد وقامت بشكل أحادي بترسيم حدودها الشمالية مدعومة بمنظومة عسكرية عدائية.

حقل كرديش الموجود في جنوب المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان، يدّخل في العمق اللبناني وطبقاته الجيولوجية مُشتركة مع البلوك رقم 9 بالدرجة الأولى. من هذا المُنطلق، قامت إسرائيل بتهديد لبنان في المرحلة الماضية مما شكّل ضغطًا على شركات النفط التي كانت ستبدأ الحفر في أذار الماضي وتأخرت العلمية. بالطبع هذا كلّه لكي تتمكّن إسرائيل من سبق لبنان بالتنقيب علّها تستطيع تأهيل الخزانات بطريقة تدّفع الغاز الموجود في الجانب اللبناني إلى خزّاناتها. وعلى الرغم من نجاحها في تأخير عملية التنقيب عن الغاز اللبناني، ما تزال إسرائيل تواجه مُشكلة جذب شركات مُستعدّة للإستثمار، فمعظم الشركات التي كانت في مفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية إنسحبت لسببين: الأول التحدّي الجغرافي للحقول الغازية على عمق يزيد عن 1500 متر تحت سطح البحر، والثاني المخاوف من الصراع الإسرائيلي مع لبنان وخصوصًا من صواريخ قد تنطلق من جنوب لبنان بإتجاه المنشأت البحرية. من بين الشركات يُمكن ذكر شركة أديسون الإيطالية التي دخلت في مفاوضات مع شركتي نوبل إنيرجي الأميركية ومجموعة ديليك الإسرائيلية في العام 2014 ومن ثمّ انسحبت من المفاوضات. أيضاً يُمكن ذكر شركة وودسايد بتروليوم الأسترالية وغيرها.

من جهة لبنان، الحاجة إلى إستخراج الغاز والنفط من البحر والبرّ أساسية لما لهذا الأمر من تداعيات إيجابية على الأصعدة الاقتصادية، المالية والنقدية. فعلى الصعيد الاقتصادي سيُشكّل الغاز كمصدر لإنتاج الكهرباء، وفر هائل على الاقتصاد مما سيسمح له بإستثمار هذا الوفر. وعلى الصعيد المالي، فإن مُجرّد البدء بالإستخراج سيكون له تداعيات إيجابية على تصنيف لبنان الإئتماني مما سيؤدّي حكمًا إلى خفض كلفة الدين العام التي تُشكّل أكثر من ثلث الإنفاق العام.

أمّا على الصعيد النقدي، فإن دخول أموال إلى خزينة الدوّلة بالعملة الصعبة سيرفع حكمًا من قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي وبالتالي ستكون قيمة الليرة أعلى مما هي عليه الأن بحسب الكمية التي سيتمّ إيجادها.

بالتحديد وبالحديث عن الكمية الموجودة في لبنان (بحرًا وبرًا) تُشير المعلومات إلى أن هذه الكميات هائلة. وتقديرها بالدولار الأميركي يفرض الأخذ بعين الإعتبار عدد من العوامل منها تقني ومنها إقتصادي (الكمية التي يُمكن إستخراجها تقنيًا، سعر برميل النفط، سعر الغاز، كلفة البنى التحتية، حصة الشركات…). من هذا المُنطلق قمنا بمحاكاة ستوكاستيكية (Stochastic Stimulation) على تطوّر أسعار النفط في الأعوام القادمة وأخذنا بالإعتبار سيناريوهات في الإنتاج مما أوصلنا إلى النتيجة التالية:

١)  يبلغ صافي حصة الدولة اللبنانية من الثروة النفطية والغازية (بعد حسم الكلفة وحصة الشركات) ٢١٠ مليار دولار أميركي مع إحتمال ٩٥٪. وكما يُقال في علم الإحصاء: كل حدث يفوق إحتمال حدوثه الـ ٥٠٪ هو حدث شبه أكيد مما يعني أن هذا الرقم هو شبه أكيد؛

٢) قيمة هذه الحصّة ترتفع إلى ٩٣٠ مليار دولار أميركي مع إحتمال ٥٪.

هذه الحصّة سيتمّ إستخراجها تدريجيًا وبكميات يومية تتعلّق بقدرة الشركات على الإنتاج اليومي ولكن أيضًا بالرغبة الإسرائيلية بالسماح بهذا الأمر نظرًا إلى تاريخها العدواني.

ويبقى السؤال: هل سيكون لإستخراج النفط والغاز من البحر ثمنه السياسي؟ وهل سيقبل لبنان بهذا الثمن؟ تطوّر المحادثات اللبنانية-الأميركية سيُعطي مؤشرات أوضح في الأيام والأسابيع القادمة.

Print Friendly, PDF & Email
Source الديار الجريدة