Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

الحكومة مُحاصرة برباعية المجتمع الدولي ــ الشارع ــ عجز الموازنة والوقت

الموازنة تعجز أمام نفوذ الفساد وإقرارها لن يكون قبل شهر حزيران

الديار | بروفسور جاسم عجاقة

نقاشات حادّة طغت على الجلسات الأولى لمجلس الوزراء لبحث الموازنة وكادت تُطيح بها وبجلسات المجلس. وعلى الرغم من تدخّل الرئيس الحريري لتهدئة الأجواء وإرساء جو من النقاش البنّاء إلا أن المعلومات تُشير إلى أن أجواء الجلّسات بقيت محقونة تحت تأثير أربعة عوامل:

أولا ـ المجتمع الدولي الذي ما يزال غير راض عن الإجراءات المُقترحة الواردة في مشروع موازنة العام 2019 والتي يعتبرها غير كافية ولا تُعطي إشارات إيجابية كافية للمجتمع الدوّلي. وتُشير المُعلومات الى أن الجانب الفرنسي بالتحدّيد غير راض عن أداء الحكومة في ما يخصّ الموازنة واعتبر أن إقرارها كان يجب أن يتمّ منذ أكثر من شهر مع إجراءات جريئة أكثر من المطروح.

عدم رضى المجتمع الدوّلي بالمطلق لا يعني أن مؤتمر سيدر مهدّد فالمعلومات تُشير إلى أن المبعوث الفرنسي دوكان صرّح خلال لقاءاته أن المجتمع الدوّلي وفرنسا بالتحديد تُريد مساعدة لبنان ولكن يجب على السلطات اللبنانية أن تعمد إلى إعطاء إشارات إيجابية تستطيع من خلالها فرنسا التسريع في الاستفادة من أموال سيدر. هذه الإشارات الإيجابية تتمثّل بالإصلاحات التي تعهدت الحكومة اللبنانية القيام بها في مؤتمر سيدر وعلى رأسها تخفيض عجز الموازنة. على هذا الصعيد تقول المعلومات ان مُجرّد إقرار موازنة تتمتّع بمصداقية كفيل بتحرير الدفعة الأولى من أموال سيدر والمُقدّرة بأكثر من مليار دولار أميركي.

ثانيًا ـ الشارع اللبناني وخصوصا القطاع العام الذي يرى في المساس بمكتسباته دون مُعالجة جدّية للفساد في العديد من الأماكن التي لم تتمّ معالجتها بعد، هو أمرا مرفوضا. وسلسلة الإضرابات التي بدأت في اليومين الماضيين وتمتدّ حتى اليوم هي عيّنة عما يُخطّط له الشارع مع تحذيرات من العديد من النقابات العمّالية وعلى رأسها الإتحاد العمالي العام بإضراب مفتوح إذا ما تمّ المسّ برواتب الموظّفين (كل يوم إضراب يُخسّر الاقتصاد من 50 إلى 200 مليون دولار أميركي بحسب نسبة الإلتزام بالإضراب).

في الواقع الشارع اللبناني هو العامل الذي يُقلق الأكثر القوى السياسية من ناحية أن مواجهة شاملة بين السلطة والشارع قد تؤدّي إلى إضعاف الحكومة والقوى السياسية من خلال خسارة التأييد الشعبي. هذه النقطة الأخيرة تُثير الحذر بين أطراف الحكومة الذين يخشون من أن تعمد إحدى هذه القوى إلى ركوب موجة الشارع وبالتالي قطف ثمارها في الإنتخابات النيابية بعد ثلاثة أعوام.

ثالثا ـ أرقام المالية العامّة التي تحدّ بشكل كبير من هامش تحرّك الحكومة وتجعل خيارات تخفيض العجز محدودة خصوصا في ما يخص إجراءات التقشّف. فالمواد 43 إلى 59 الغائبة في مشروع موازنة العام 2019 المُسرّب إلى الإعلام، تحوي على كل المواد الحساسة والخلافية من رواتب القطاع العام إلى رواتب النواب والوزراء مرورًا برواتب العسكريين والتدبير رقم 3 والضريبة على القيمة المُضافة وضريبة على صفيحة البنزين والضرائب على المصارف ومُساهمة هذه الأخيرة في خفض خدمة الدين العام…

هذه المواد تُناقش في مجلس الوزراء بعيدًا عن الإعلام وفي ظل أجواء محقونة حيث ان كل طرح يُلاقي مناصرين ومُعارضين في مجلس الوزراء. وتُشير مصادر مُقرّبة من أحد الأحزاب الفاعلة في الحكومة إلى أن هناك استحالة للمسّ برواتب القطاع العام بما فيها رواتب العسكريين والمُتقاعدين منهم نظرًا إلى ردّة فعل الشارع التي قطعت الطريق على إمكانية المضي في مثل هذا الطرح.

رابعا ـ الوقت الذي أصبح ينفذ تدريجيًا مع دراسة مشروع الموازنة في الشهر الخامس من السنة مع العلم أن إقراره لن يكون في أحسن الأحوال قبل نهاية الشهر. حتى أن وزير المال على حسن خليل يتوقّع إقرار الموازنة في شهر حزيران كما تنص عليه اقتراحات المواد التي تُشير إلى أن بدء العمل بالإجراءات يبدأ من الأول من تموّز 2019 أي أنه يستبعد إقرارها في شهر أيار وإلا لكان وضع تاريخ بدء التطبيق من أول حزيران 2019 لزيادة المفاعيل الإجرائية للموازنة.

إلى جانب هذه القيود الأربعة التي تحدّ من الخيارات المطروحة، برز البارحة نوع أخر من القيود وتمثّل بموقف لجمعية التجّار ترفض فيه فرض أي رسوم على الإستيراد. هذا الطرح الذي قام به وزير الاقتصاد والتجارة ينصّ على فرض رسوم بنسبة

في الواقع مثل هذا الطرح قدّ يجلب إلى الخزينة مبلغًا يتراوح بين 400 إلى 600 مليون دولار سنويا وقدّ يغني عن أي مسّ بأجور القطاع العام وهو بالتالي إجراء جيد نظرًا إلى نسبة الاحتكار المُرتفعة في مجال الاستيراد. مع العلم أن هناك نوعاً من الظلم قد يلحق بموظّفي القطاع الخاص من ناحية تحميل موظّفي القطاع الخاص والمهن الحرّة كلفة أعلى من موظّفي القطاع العام (الذين استفادوا من سلسلة الرتب والرواتب). عمليًا تبقى إيجابيات هذا الطرح أكثر من سلبياته خصوصًا في ما يتعلّق بدعم الإنتاج الوطني وتحفيز القطاع الخاص على زيادة وتنويع الإنتاج الصناعي والزراعي. الجدير ذكره أن لبنان يستورد بما قيمته 20 مليار دولار أميركي مما يُؤثّر سلبًا في الشركات واليد العاملة اللبنانية ويؤدّي إلى خروج 20 مليار دولار أميركي من الاقتصاد اللبناني وينعكس سلبًا على ميزان المدفوعات وبالتالي على الليرة اللبنانية.

المُشكلة التي تواجه مشروع موازنة العام 2019 تتمثّل بعدم قدرة الإجراءات الواردة في مشروع موازنة العام 2019 على لجم العجز. وحساباتنا الأولية تُشير إلى أن العجز الذي سيتمّ تحقيقه خلال العام 2019 سيكون بأفضل الأحوال 6.5 مليار دولار أميركي أي ما يوازي عجز العام 2018 وذلك بفرضية أن الحكومة تشدّدت في تطبيق بنود الموازنة وأن أسعار النفط لم ترتفع أكثر. بالطبع هذه الأرقام تبقى أوّلية نظرًا إلى غياب المواد 43 إلى 59 من مشروع الموازنة المُسرّب إلى الإعلام والذي يمنّع القيام بتقديرات دقيقة.

إذًا ما هي الإصلاحات التي ينتظر المجتمع الدولي من الحكومة القيام بها وكيف لها أن تُخفّض من عجز الموازنة؟

أولا ـ محاربة الفساد الذي يحوي على عدّة نقاط إصلاحية منها توقيع لبنان على معاهدة الأمم المُتحدة لمكافحة الفساد، تعيين وزير دوّلة لمُكافحة الفساد، وجود وزير دولة للشؤون الإدارية، إقرار قانون حق الوصول إلى المعلومات، قانون لحماية المبلغين عن الفساد، استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد وقانون لإنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد؛

ثانياً ـ طريقة ادارة الاموال العامة الواجب اعتمادها يفرض انشاء وزارة للتخطيط تدبر امور البلد تنموياً واقتصادياً وكيفية توزيع الاموال على المشاريع ومدى الحاجة اليها واقرار الموازنات في مواعيدها، تحسين الشفافية في الموازنة العامة وآلية تحضيرها، تحسين إدارة التحصيل الضريبي وإدارة الدين العام، إنشاء الحكومة الإلكترونية، تحسين آلية المناقصات العمومية والشفافية في المشتريات؛ وإصلاحات في الجمارك تهدف إلى وضع المعاملات عند حصولها على نظام المعلوماتية التابع للجمارك؛

ثالثًا ـ تحديث وإعادة هيكلة الإدارة العامة بعد إقرار القانون رقم 46/2017 (سلسلة الرتب والرواتب) وذلك من خلال الخطوات الآتية : منع جميع حالات التوظيف والتعاقد بما في ذلك قطاع التعليم والقطاع العسكري وذلك على جميع المستويات والاختصاصات وفي المشاريع المشتركة مع مختلف المنظمات الدولية، ما لم يقرر مجلس الوزراء عكس ذلك وبعد إجراء دراسة جدوى، لعتماد نظام موحد للمساهمات الاجتماعية للحكومة، مراجعة سياسة الدعم ومساهمات الدولة في الصناديق، تحديد نفقات الوقود في الإدارات العامة، وإجراء مسح شامل يوضح الوظائف التي تتطلبها الإدارة للقيام بالمهام الموكلة إليها مع توصيف وظيفي وعدد الموظفين والمقاولين والمتعاقدين مهما كانت صفتهم كما وتحديد الاحتياجات والفائض والكلفة الحالية والمستقبلية لليد العاملة في القطاع العام، واعتماد استراتيجية لمكننة الإدارة العامة؛

رابعًا ـ زيادة الشفافية وتتضمّن مكننة المحاكم في لبنان، قانون الشفافية في قطاع الغاز والنفط وإقرار المعاملات الإلكترونية؛

خامسًا ـ تحسين بيئة الأعمال وذلك من خلال تعديل قانون التجارة وبيئة الأعمال (تم من خلال القانون 83)، إقرار قانون الوساطة القضائية، وتحسين تمويل الاقتصاد وذلك من خلال إصلاح الأسواق المالية التي تمّ إقرار قوانينها وتحتاج إلى تعيينات من قبل مجلس الوزراء.

مما سبق نرى أن هذه الإصلاحات تنقسم إلى قسمين منها ما هو من اختصاص مجلس النواب (الرئيس برّي صرح أن المجلس قام بإقرار خمس أسداس ما هو مطلوب منه) والأخر من اختصاص الحكومة. وما يُمكن ملاحظته منها أنها تدور حول ثلاثة محاور: مكافحة الفساد، تحسين أداء المالية العامة والإدارة، وتحسين بيئة الأعمال. والمحوران الأولان قادران وحدهما على توفير كمّ هائل من الأموال لمصلحة خزينة الدوّلة اللبنانية، فكلفة الفساد على لبنان والتي قمنا بحسابها هي 10 مليار دولار سنويًا تنقسم إلى 5 مليار دولار أميركي خسائر مباشرة (منها 4 مليار دولار أميركي تهرّب ضريبي) و5 مليار دولار أميركي خسائر غير مباشرة تتمثّل بفرص اقتصادية ضائعة على الاقتصاد كانت لتدخل إلى الخزينة كمّاً هائلاً من الأموال. ويبقى الأهمّ وهذا ما ينتظره المُجتمع الدوّلي هو البدء فعّليًا بمكافحة الفساد الذي عماده القوانين المُقرّة ورمّحه تنفيذ هذه القوانين.

وإذا ما أخذنا العجز المُتراكم منذ العام 2011 وحتى العام 2018 واحتسبنا العجز الناتج من الفساد وسوء الإدارة وقمنا بفرضية استثماره في الاقتصاد، لكان حجم الاقتصاد اللبناني اليوم يفوق الـ 110 مليار دولار أميركي. إذًا نرى مما تقدّم أن هذه البنود الإصلاحية الآنفة الذكر لا تُخفّض عجز الموازنة فحسب، بل تدعم الاقتصاد وتُكبّر من حجمه من خلال استثمار الفائض في الماكينة الاقتصادية.

على كلٍ النظر إلى مشروع موازنة العام 2019 لا يُشير إلى أن هذه البنود معالجة، بل أن هناك قسماً فقط يتعلّق بأجور الموظفين التي يتمّ قبضها من دون قاعدة قانونية فعّلية (عرف) وبالتالي يُمكن إدخالها في خانة الهدر وأتى هذا المشروع ليضع حدًا لها. وبالتالي فإن نقاط الفساد التي تُخسّر الدولة الكمّ الأكبر من الأموال لم تتمّ مُعالجتها وقد يعود السبب ربما إلى نفوذ المُستفيدين والذي يمنع الحكومة من أخذ خطوات جريئة ينتظرها بتلهّف المجتمع الدولي والأسواق المالية.

يبقى القول إن الظاهر هو أن الموازنة عجزت أمام الفساد ولكن يتوجّب إعطاء الحكومة الفرصة لإنهاء دراسة المشروع وإقراره للحكم على النتيجة.

Print Friendly, PDF & Email
Source الديار الجريدة