jassemajaka@gmail.com
المصارف المركزية تفقد بعض هوامش التحرُّك
أظهرت المصارف المركزية في بعض الإقتصادات المُتطوّرة فعّالية كبيرة في تدارك تداعيات الأزمة المالية في العام 2008 والتي تمتد ذيولها حتى اليوم مع تعاظُم أزمة الديون السيادية. لكن التحليل يُظهر أن هذه المصارف بدأت تفقد من هامش تحركها مع إستمرار الركود الإقتصادي. الإكتناز (thésaurisation) مصطلح اقتصادي يُستخدم لوصف تراكم العملة (أو تفضيل السيولة) بهدف جني الأرباح ليس عبر الإستثمار في الإقتصاد بل نتيجة غياب فرص إستثمارية مناسبة. وإذا كان اللاعبون الإقتصاديون يمارسون الإكتناز، فالأسباب الأساسية كانت بهدف المضاربة إلا أنها تغيرت مع الوقت وأصبحت بسبب غياب فرص إقتصادية. في الأنظمة النقدية المُعاصرة، الإكتناز عبارة عن تراكم العملة من خلال إزدياد الإدخار – أي سحبها من النشاط الإقتصادي بهدف شراء أصول لاحقاً بعائدات مُرتفعة مثل سندات الخزينة في حال تمّ إصدارها بفوائد عالية. وقام الإقتصادي الكبير كينيز في ثلاثينات القرن الماضي بوضع الإطار النظري للإكتناز حيث أطلق عليه إسم مصيدة السيولة. ويقول كينيز أنه إذا إنخفضت الفائدة تحت عتبة معينة، يُصبح الطلب على العملة بهدف المضاربة غير محدود، ويخلق بالتالي نوعا من المقاومة لتدني الفائدة. هذا الطلب على العملة بهدف المضاربة يرفع من حجم الإدخار وبالتالي يُقلل ميكانيكياً الإستهلاك وكنتيجة الإستثمارات بحكم التوقعات السلبية للمستقبل، بما يعني إنخفاض النشاط الإقتصادي. لكن الإكتناز، على عكس ما يظنّ البعض، تواكبه تكلفة شبيهة بتكلفة شركات التأمين التي تُترجم بما يُسمّى الـ Prime . فتأمين المبالغ المودعة في المصارف بهدف الإدخار يتمّ عبر فرض نسبة معينة من المال على الأموال المودعة. هذه النسبة تُحدّد من خلال معادلة توازن أي غياب الـ Arbitrage وبالتالي يُمكن أن تكون الفائدة التي يتلقاها المودع سلبية بدل أن تكون إيجابية. وكمثال على ذلك، إذا وضعنا 100 د.أ في المصرف بفائدة وهذا يعني أن الوضع الإقتصادي العالمي والمخاطر التي تحفّ به، تدفع صاحب رأس المال إلى القبول بخسارة أكيدة بقيمة مّحددة سابقاً على أن يقوم بإقراضه إلى شركة قد تخسر رأس المال بالكامل في ظل الظروف الإقتصادية التعيسة. هذا الأمر ينطلق من قناعة صاحب رأس المال أن الدولة تبقى قيمة أكيدة بعكس القطاع الخاص الذي يتعرض لمخاطر السوق. لكن هذا الأمر له إنعكاسات على الدورة الإقتصادية بحكم أن مُعظم الأموال تذهب لتمويل ديون الدولة وبالتالي تُحرم الدورة الإقتصادية منها، خصوصاً القطاع الخاص الذي هو في أشد الحاجة إلى الإستثمارات – الوحيدة القادرة على خلق نمو إقتصادي. أيضاً يُمكن القول أن الإستهلاك يتضرّر بقوة نتيجة هذا الأمر بحكم أن العلاقة بين الإدخار والإستهلاك هي علاقة عكسية. يبقى السؤال، أين المصارف المركزية من كل هذا؟ الجواب على هذا السؤال مُعقد ويُوصل إلى نتيجة تؤشّر الى ضعف إجراءات المصارف المركزية وتراجع هامش التحرّك. ففي أذار 2009، قام المصرف المركزي البريطاني بأول عملية تسييل كمّي (quantitative easing) وهي عبارة عن خلق عملة من قبل المصرف المركزي وشراء سندات خزينة سيادية. وأخذت بعدها المصارف المركزية الأخرى (الإحتياطي الفدرالي، الأوروبي، الإيرلندي…) بإتباع نفس الأسلوب حيث وصلت الأرقام إلى مستويات فلكية مع شراء المركزي الأوروبي لسندات خزينة بقيمة 60 مليار يورو شهرياً، وكذلك الأمر بالنسبة للإحتياطي الفديرالي. كما عمدت المصارف المركزية إلى دعم القطاع المصرفي والإقتصاد عامة حيث أنفق المركزي الأوروبي ما يفوق الـ 630 مليار يورو بين أذار 2015 وأذار 2016. أضف إلى ذلك أن نسب الفوائد إنخفضت إلى ما يُقارب الصفر وحافظ الإحتياطي الفدرالي على هذا المُستوى لأكثر من 7 سنوات دون أن يكون هناك ردّة فعل جدية من قبل الإقتصاد الأميركي. هذا الأمر يُظهر أن المصارف المركزية إستخدمت كل ما في وسعها من أجل دعم الإقتصاد لكن المشكلة تبقى في الآفق السوداء التي يراها اللاعبون الإقتصاديون بما يؤثر على الإستثمار والإستهلاك . يُشبّه الحاكم السابق للمصرف المركزي البريطاني المصارف المركزية كسائق دراجة هوائية يواجه منحدراً تزداد حدته مع الوقت وبالتالي يقوم بالدوس أكثر للمحافظة على نفس السرعة، لكن دون نتيجة. من هنا ظهرت بعض النظريات التي ترفض مقولة أن الإنكماش هو كارثة، ويحب القبول بالإنكماش بهدف إعادة دوزنة الواقع الإقتصادي وإعادة إطلاقه على أسس سليمة. أمّا في لبنان، فالوضع المالي والإقتصادي مُختلف. على الرغم من إتباع مصرف لبنان سياسة التسييل الكمّي، زيادة الودائع في المصارف التجارية، وقلة الإستثمارات في الإقتصاد، يُحافظ المصرف المركزي على فوائد عالية تسمح بتمويل دين الدولة وعجز موازنتها. وإذا كانت الدول المُتطورة إقتصادياً تُعاني من تراجع الطلب وبالتالي مخاوف من إنكماش إقتصادي، إلا أن وضع الإستهلاك في لبنان مُختلف حيث قارب الـ 10